متفرقات

لبنان حلقة مفرغة من الهوية والانتماء  

بقلم د. عليا علي ملحم

البحث عن هوية للإنسان المولود من رحم الحرية في وطن يشبه السجن وقانون يشرّع التشرّد والعبودية، بات إشكالية مجتمعية ووطنية وإنسانية. هذه الإشكالية التي سنطرحها في لبنان، قد لا تصل إلى أية نتيجة طالما أن الأزمة الهوياتية بنيوية ومتجذرة، إلا أننا سنكتفي بتقديم مقاربة سوسيوسياسية نربط من خلالها الهوية بالدولة، لنخرج بعنوان لم يتغير منذ ولادة لبنان، وهو “أزمة الهوية”.

في تعريف الهوية: “هي إنصهار الذات الفردية أو الأنا الذاتية لكل فرد في بوتقة واحدة، هي الجماعة أو الـ”نحن” التي تشكل الضمير الجمعي والوعي الإجتماعي.والهوية الوطنية مرتبطة بالعديد من العناصر أهمها الحضارة والشعب والهوية”.

وعلى هذا الأساس فإن الهويات الإجتماعية تتضمن أبعاداً جماعية، وأهم ما فيها أنها تبرز عناصر التشابه بين الأفراد.

يمكننا إعتبار عالم الإجتماع الأمريكي جورج هربرت ميد (1863_1931) من الأوائل الذين طرحوا فكرة أن الشعور بالهوية ليس مجرد معطى فردي، بل حصيلة أليات إجتماعية.

كما يعتقد ستيورات هول Stuart Hall أن فكرة الهوية مرت عبر ثلاث مراحل تأثرت فيها بالتفكير السائد حول المجتمع، فهويات ما قبل الحداثة كان فيها موضوع الفرد والهوية الفردية هو المحور الأساسي في المجتمعات، وقد تركزت بشكل كبير على الهياكل التقليدية خاصة تلك المرتبطة بالدين. مع الحداثة تغير هذا المفهوم وظهر مفهوم جديد للهوية يعتبر الفرد قابلاً للقسمة، حيث ان هوية كل فرد كانت متميزة عن الآخر. تغير الموضوع في فترة الحداثة المتأخرة وما بعد الحداثة، إذ أن التغيير السريع جعل من الصعب الإحتفاظ بإحساس موحد لدى الناس والجماعات بهويتهم.

في لبنان، نص الدستور على أن لبنان عربي الهوية والإنتماء، وخصوصاً وأن لبنان يتميز بوجود شعوب أخرى مقيمه فيه، كالشعب الفلسطيني والسوري … وهذا ما يضيف على الهوية الأصلية ويمنحها بعداً ثقافياً وتراثياً .

إلا أنه ومن منطلق الموضوعية، نطرح مقاربة علمية واقعية لمسألة الهوية في لبنان، ونعتبر بكل تجرّد أننا أمام أزمة هوية وجودية، حيث لا يمكن بناء الدولة الا بمواجهتها وايجاد الحلول النهائية لها.. والا سنبقى في اطار البحث عن وطن بديل كما فعل مئات الالاف من اللبنانيين الذين هاجروا بحثا عن الأمان والشعور بالكرامة والذات الانسانية. وهذا يعود بالدرجة الأولى الى ضعف السلطة المركزية التي امتنعت عن تقديم الخدمات الأساسية التي تعد من حقّ المواطن، كالطبابة والعلم وضمان الشيخوخة والمياه والكهرباء والطرقات الآمنة، فقلصت بإرادتها ولاء المواطن لها، وتولت الزعامات المحلية هذا الدور؛ الدور الخدماتي، ما خلق تلقائياً شعور ولاء لدى المواطن للزعامة، لا للدولة.

هذه الأزمة التي بدأت منذ الولادة القيصرية المريضة للبنان، واستمرت باستمرار التفتيت الممنهج للمجتمع اللبناني القائم على التقسيمات الطائفية والمذهبية والمناطقية، وعلى الانقسامات الايديولوجية الحادة التي شوّهت المعرفة وأحدثت انقلابا كبيرا وخطرا في ثقافة الحياة والوجود والتطور الانساني والوطني. فبات الشعب اللبناني يعيش تحت رحمة أمراء الطوائف وملوك السياسة المقنعة بالولاء للوطن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن البعد الأيديولوجي يتعلّق بأساس النظام السياسي اللبناني وبتوجّهاته الخارجية، وعدم الوضوح الذي يعتريهما والحيرة بين لبنان “العروبي” أو لبنان “الغربي الهوى”، كما أرادته الشمعونية، أو لبنان محور المقاومة .

كما أننا أمام تعدّد وتنوع في الهويات المركّبة على أرض لبنان والتي أسقطت بفعل الضعف والارتهان والرهان على التحكم الأبدي بالسلطة السياسية وما يرتبط بها من مغانم اقتصادية ومالية وعلائقية. وهذا البعد السياسي يتمثل بغياب مظاهر الانتماء وعدم نجاح من تناوبوا على حكم لبنان وإدارة مؤسساته في تكريسها وتحويلها إلى واقع عملي وبنيوي في لبنان دولة ومجتمعاً.

هذه الهويات (الولاءات) تتوزع على الدول الطائفية الحاكمة، التي أرادت بقاء لبنان دولة تابعة قابعة في دائرة مغلقة على الفساد والسرقات وتشويه الأرض وتزوير التاريخ. وهذا ما يمكن تسميته بالاستقطاب الخارجي، فكثيرة هي الأطراف الداخلية اللبنانية التي تدين بانتمائها لأطراف خارجية، وهو ما انعكس، وسينعكس دوماً، على مسألة الهوية..

في النتيجة، لا بدّ من اعادة التفكير بالهوية الوطنية اللبنانية، بعيدا عن الولاءات الطائفية والمذهبية، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الهوية والانتماء. فتحديد الهوية لا يكون من وجهة نظر إلغائية وانعزالية شوفينية خائفة، بل من وجهة نظر تعدّدية منفتحة وحضارية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى