هل يمكن تحقيق الاستقرار في سعر الصرف؟
بقلم الخبير المالي والاقتصادي د. عماد عكوش
المشكلة الاساسية التي يعاني منها لبنان ليست في حجم الدين العام ولا في سعر الصرف، ولا في ريعية الاقتصاد ولا في عدم وجود رساميل داخل لبنان ولا في عدم وجود الخبرات الكافية للنهوض. ما يعاني منه لبنان هو هذا النظام الطائفي الذي أرسى قواعد للحكم يصعب الخروج منها عبر إصلاحات أو ثورة سلمية ما سيؤدي حتما إلى حرب أهلية أو انهيار شامل للخروج لاحقا منها. لأن أي تعديل أو تصحيح أو خطة عمل يحتاج الى توافق شامل، وهذا التوافق مستحيل في ظل وجود محاور متناقضة كليا داخل البلد وفي ظل ارتهان مجموعات كبيرة لدول ليس لديها مصلحة في خروج لبنان من أزمته كونها تسعى الى محاصرته وفرض شروط خاصة عليه لمصلحتها ولمصلحة دول متحالفة معها.
كيف يمكن الخروج من الازمة وهناك حاكم على رأس السلطة النقدية يمنع تعويم سعر الصرف والاعتراف بالمشكلة، وهو أول شرط للبدء بحل المشكلة؟ كيف يمكن الخروج منها وعلى رأس السلطة السياسية رئيس حكومة لا يجرؤ على اتخاذ القرار الاقتصادي السليم والجريء بسبب خوفه من العقوبات الشخصية عليه؟ كيف يمكن الخروج منها في ظل وجود كتل نيابية وأحزاب لا تجرؤ على الموافقة على قوانين واصلاحات وخطط بسبب الضغوطات التي تمارس عليها وهي خانعة؟ كيف يمكن الخروج من الازمة وهناك أحزاب لا ترى من ضمن أولوياتها المواطن بل أهداف استراتيجية تصل الى حدود عدم الممانعة في تفريغ لبنان من اللبنانيين إذا كان ذلك يخدم هذه الاستراتيجية؟
مع ذلك يمكن الوصول الى حالة الاستقرار الاقتصادي النسبي حتى ولو بقينا مختلفين في السياسة ولكن دون ذلك الحاكم الذي يمنع هذا الاستقرار. الحاكم الذي يملك حق تعديل سعر الصرف الرسمي بشكل تدريجي وبقرار صادر عنه دون الحاجة لمجلس وزراء ولا لمجلس نيابي.
هذا التعديل التدريجي يمكن ان يضاعف واردات الدولة وبشكل كبير. ما يعني سحب كل السيولة بالليرة اللبنانية من السوق وفائض كبير في واردات الخزينة بحيث يمكن استعمال جزء منه في تغطية زيادة غلاء المعيشة وزيادة رواتب القطاع العام، بدل رفعه عبر الموازنة الى سعر المنصة دفعة واحدة والذي سيؤذي كثيرا” اللبنانيين في حجم التضخم الذي يمكن ان يحققه وسينعكس بطبيعة الحال على قدرتهم الشرائية مجددا.
تبلغ الكتلة النقدية اليوم الموجودة قيد التداول وفق آخر نشرة صادرة عن مصرف لبنان في 30 حزيران 2022 حوالي 38904 مليار ليرة لبنانية. كما تبلغ الواردات المقدر تحصيلها لعام 2021 حوالي 17982 مليار ليرة لبنانية. ولو تم رفع سعر الدولار رسميا من قبل مصرف لبنان الى سعر 8000 ليرة في بداية الامر وتم تثبيت رسوم المسافرين بالدولار الأميريكي، ورسوم هبوط الطائرات، ورسوم التفريغ في المرافئ البحرية، ورسوم رسو السفن، وإيجار الأملاك البحرية، والمناطق الحرة، كلها بالدولار الاميريكي لأمكن زيادة الواردات بأكثر من أربعة أضعاف أي يمكن تحقيق واردات قد تصل إلى أكثر من سبعين الف مليار ليرة لبنانية. وعندها لن يكون هناك حاجة لتعديل رسوم الهاتف الخليوي لأنها ستبقى على السعر الرسمي أي على سعر 8000 ليرة وستحقق نفس الهدف.
نشير هنا الى أن حجم الواردات عام 2018 أي قبل الازمة الاقتصادية كانت تبلغ حوالي 16189 مليار ليرة لبنانية فيما كانت الكتلة النقدية الموضوعة قيد التداول في نفس السنة حوالي 5860 مليار ليرة لبنانية. وهذا يعني ان نسبة الكتلة الى إجمالي الإيرادات المحققة كانت تبلغ حوالي 36.20 % بينما يمكن ان تبلغ اليوم مع رفع سعر الصرف الرسمي 8000 ليرة لبنانية 55.57 % ويجب العمل على إعادة النسبة الى سابق عهدها عبر الرفع التدريجي لسعر الصرف الرسمي حتى نصل الى نسبة تعادل حوالي 35 %، وبعدها يجري العمل على إعادة الثقة للقطاع المصرفي لنعيد امتصاص جزء من هذه الكتلة من السوق.
بالتأكيد يجب ان يترافق رفع سعر الصرف الرسمي للدولار مع رفع رواتب القطاع العام ومع تأمين الموارد حينها سيسهل عملية أعطاء الزيادات ومع الاقتراب من سعر 16 الف ليرة للدولار الرسمي ستتضاعف الواردات مجددا” مما سيسمح بامتصاص كتلة كبيرة من السوق وحصرها ضمن أطار دفع الرواتب وتأمين الكلفة التشغيلية للوزارات والادارات الرسمية وهي معظمها محصورة بالليرة اللبنانية.
إن الاستمرار على سعر الصرف الرسمي 1507.50 ليرة لبنانية هي جريمة بحق الاقتصاد اللبناني كما أن رفع رواتب جزء من قطاعات الدولة عبر استخدام سياسة تسعير للدولار خاصة بها هي جريمة أخرى ومخالفة لكل القوانين اللبنانية والتي تمنع التمييز أولا بين الادارات، وتمنع إعطاء أي زيادة إلا بموجب مراسيم وقوانين يتم المصادقة عليها وفقا” للاصول وتنشر في الجريدة الرسمية.
ان اعتماد سياسة الرفع التدريجي لسعر صرف الدولار الرسمي هي السياسة الوحيدة اليوم في ظل غياب المعالجات والقوانين التي يجب إقرارها من قبل مجلس الوزراء والمجلس النيابي حيث يمكن أن تحقق الحد الادنى من الشروط الواجب توافرها لتأمين الحد الادنى من استقرار سعر صرف الليرة.
ان الشروط التي يجب توفر معظمها لاستقرار سعر الصرف هي التالية:
1- ايقاف النزف في احتياطي العملات الصعبة من خلال وقف دعم كل السلع والتي أثبتت كل التجارب والمحاولات ان المستفيد الأكبر منها هو التاجر فقط.
2- رفع سعر الصرف الرسمي للدولار الى ثمانية الاف ليرة لبنانية وهذا الارتفاع سيعزز واردات الدولة اللبناتية من خلال ثلاثة مصادر: الرسوم الجمركية، القيمة المضافة، ضريبة الدخل، رسوم تسجيل العقارات.
3- رفع الأجور في القطاعين العام والخاص بشكل يحافظ على القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية وقدرتها على التنافس خارج الحدود وداخل لبنان، والذي سيعزز الإنتاج المحلي.
4- خفض الشروط والإجراءات بالنسبة للرخص الصناعية وانشاء المدن الصناعية فورا في القرى واتحاد القرى.
5- تثبيت تحصيل رسوم السفر، الطائرات، المناطق الحرة، الاملاك البحرية، جوازات السفر، خدمات الميدال إيست، وإلزام مرور المنح والمساعدات للنازحين واللاجئين عبر مصرف لبنان ودفعها لمستحقيها بالسعر الرسمي.
6- اقرار قانون الكابيتال كونترول لتنظيم العمل المصرفي وحماية ما تبقى من ودائع ومنع تهريبها للخارج وعدم ترك الأستنسابية للمصارف في التعامل مع المودعين.
هذه هي الشروط الاساسية في ظل الفوضى والمطلوب توافرها لاستقرار سعر الصرف حاليا وعدم تخبطه، على أمل إقرار الخطط والقوانين والموازنة لاحقا ولا سيما قانون الكابيتال كونترول وخطة التعافي للخروج من الازمة.