الفاتيكان لا ينجر وراء المهاترات الجانبية
كتب الصحافي غسان سعود في الميادين:
مجدّداً يزور الفريق الخاص بالعمل الدبلوماسي في حزب الله السفارة البابوية في حريصا، لعقد اجتماع إضافيّ مع السفير البابويّ في لبنان. السفير الذي يلتقي جميع الأفرقاء اللبنانيين، يقول دائماً إن بابه مفتوح للجميع من دون استثناء، وهو ما يستصعب البعض فهمه أو استيعابه أو هضمه، فهُم لا يريدون لأحد – بما في ذلك الحبر الأعظم – أن يكون فوق الصراعات أو أعلى من الزواريب اللبنانية والأزقة. يستفزّهم مبدأ الأبواب المفتوحة والأيادي الممدودة، كما استفزّتهم جداً وكثيراً طاولة الحوار التي ترأسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غداة تفجير المرفأ، حين أصرّ على حضور حزب الله، وذهب بعيداً في الترحيب به بوصفه مكوّناً أساسياً من المكوّنات اللبنانية، متمنّياً عدم إضاعة الوقت في قضايا عبثيّة باتت أكبر بكثير من قدرة اللبنانيين على التأثير فيها، كسلاح حزب الله مثلاً.
فهؤلاء لا يريدون حَبراً أعظم أو رئيساً فرنسياً أو أيّ مرجعية سياسية أو دينية، تبحث عن مخارج للحلول؛ هذا يهدّد دورهم ووظيفتهم، ويمكن أن يقطع عنهم رواتبهم. فأساس وجود هؤلاء، أو أساس الاستمرار في تمويلهم، ينبثق من حاجة بعض الدول إلى التصعيد أو افتعال إشكالات لبنانية – لبنانية، وهم يستشعرون خطراً على مصالحهم من أي استقرار أو مشروع استقرار.
ويكفي هنا السؤال عن دور وتمويل القوات اللبنانية أو سمير جعجع في حال الاستقرار، في ظل عجزه عن تطوير أيّ أفكار اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية أو شبابية، بعيداً عن “هزت منازلنا” و”صرخة مدافعنا”. بعض المجانين لا يريد حتى لقداسة البابا أن يقول لجميع اللبنانيين أنتم جميعكم لبنانيون، تعاونوا بعضكم مع بعض لإنقاذ وطنكم، بل يريد من السفارة الفاتيكانية أن تحذو حذو سفارات أخرى في نشر الحقد والتعصّب والتحريض وتمويل التشنّج والتوتر وتوزيع الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والسواتر الترابية؛ لا يريد للفاتيكان أن يقول للبنانيين فليُحبّ بعضكم بعضاً، بل يريد لقداسة البابا أن يطلّ من شرفته المقدسة ليتوجه إلى اللبنانيين بالقول: فليقتل بعضكم بعضاً.
ومع ذلك، مع كل ما سبق وأكثر، فإن الكرسي الرسولي ثابت وراسخ وحاسم في مقاربته، سواء لدوره في لبنان أم لدور المسيحيين في لبنان والمنطقة؛ همّه الأساسي اجتماعي – اقتصادي – تربوي، لأن جميع التقارير الموثّقة التي لديه تجزم بأن سبب الهجرة المتفاقمة اليوم ليس سياسياً، لا علاقة له بحرية التعبير أو بقانون الانتخاب أو بسلاح حزب الله، بل هو اقتصاديّ بامتياز، له علاقة بانهيار العمل وعدم وجود فرص عمل والظروف المعيشية.
ورغم عظمة مرسيل غانم وحضوره الإعلامي الكبير في لبنان، فإن الفاتيكان لم يسمع بتلفزيون المر، ولا ينتظر ليل الخميس مع المترجمين للانبهار بمقدمات غانم، ولكنه على صلة وثيقة بمراكز صناعة القرار السياسي والقضائي في أوروبا، ويعلم بجدية وخطورة وضخامة ما يجري التحقيق فيه من أموال لبنانية محوّلة إلى الخارج، إضافة إلى معرفته بأن كل من يرفعون الشعارات الكبيرة الفارغة عن تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني وغيره إنما يخفون افتقادهم الكامل للمشروع الاقتصادي أو الاجتماعي الذي من شأنه تثبيت الناس في أرضهم وإيقاف مسلسل الهجرة التدميري.
بدل المواقف السياسية التصعيدية، تتطلع السفارة الفاتيكانية إلى من يدعوها هنا وهناك إلى البحث عن حلول خاصة بفرص العمل أو السكن أو تأمين استمرارية المؤسسات التربوية أو تأمين التغطية الاستشفائية للعائلات المسيحية أو إيجاد حلول للمزارع المسيحي والصناعي وصاحب المؤسسة السياحية بدل إعداده للمقاتلة به من جديد.
مع العلم بأن كل من تعاقبوا على الكرسيّ الرسوليّ راكموا منذ بدايات الحرب الأهلية تاريخاً حافلاً بتخييب ظن الرؤوس الحامية الذين يقودون من يسير خلفهم إلى المذابح والتهجير، من أجل تحقيق مكاسب خاصة صغيرة تختبئ خلف الشعارات العامة الكبيرة. وإذا كان غير المطّلعين على حقيقة المواقف يستسهلون وضع الفاتيكان وبكركي وبعض الأحزاب المسيحية وما يوصف بالمزاج الشعبي المسيحي في خانة واحدة، فإن الواقع مختلف بالكامل: الكرسي الرسولي لا يبني مقارباته بناءً على رأي شباب حيّ السريان في الأشرفية أو النبعة في المتن أو الحوش في زحلة أو انفعالات فلان وعلتان غير العقلانية على مواقع التواصل الاجتماعي، بل ينكبّ خبراؤه على وضع التصورات بهدوء شديد لتقدير الأفضل والأنسب، وهو إذ يحترم هامش الاستقلالية الكبير لدى الكنيسة المارونية، فإنه لم يتقاطع إلا نادراً جداً مع الشعبويين والموتورين والغرائزيين، في ظل افتراضه أن مهمة القائد السياسي هي قيادة مجتمعه نحو خيارات أفضل، لا الانقياد خلف الغرائز والشعبوية. والخيارات الأفضل هي تلك التي تتأمّن عبر الاستقرار والتفاهم والحوار، لا “العنتريات” والتقاتل، بكل ما استتبعهما تاريخياً من تهجير ونزوح وهجرة.
والمشكلة هنا أن الأفرقاء اللبنانيين يتعاملون مع الأحداث لحظة بلحظة، ويحكّمون عاطفتهم، أما الكرسي الرسولي فيتعامل مع النتائج النهائية، نتائج الحروب ونتائج التحالفات ونتائج النكايات ونتائج وضع العصيّ في الدواليب.
سفارة الكرسي الرسوليّ في لبنان تفكّر أبعد من المسافة الممتدة بين نهر الكلب وجسر الكازينو، أو بين الدامور والبترون، أو حتى بين رميش والقبيات؛ ليس عبثاً بالنسبة إليها سُميت البطريركية المارونية بطريركية إنطاكية وسائر المشرق؛ وهي مع احترامها الكبير وتقديرها للمسيحيّ المارونيّ اللبنانيّ، فإنه ليس أكثر شأناً أو أهمية بالنسبة إلى الحبر الأعظم من الكاثوليكيّ السوريّ والسريانيّ أو الأشوريّ أو الكلدانيّ العراقيّ، وهي تتطلع إلى التعاون مع كل من يمكنه المساعدة في تثبيت الناس في أرضهم بدل تهجيرهم، كما المساعدة في إعادة بناء مدارس سوريا وكنائسها بدل التهليل لتدميرها، فالعراق يعلم الفاتيكان جيداً من هجّر نينوى بعد ارتكاب الفظائع فيها ومن قاتل لتحريرها وإعادتها لناسها.
في سياسته الثابتة، الفاتيكان وسفاراته لا ينجرّون أو ينفعلون أو يتلهّون بالمهاترات الجانبية، بل يفعلون وينتظرون ممن يعيّنونهم هنا وهناك أفعالاً لا أقوالاً، وهم غالباً ما يُمهِلون لكنّهم لا يُهمِلون.