إسرائيل” ورمال فلسطين المتحركة
بقلم وزير الخارجية الاسبق د. عدنان منصور
لم يتوقع يوما قادة التنظيمات الارهابية الاسرائيلية الارغون وشتيرن، والهاجانا، كإسحاق شامير، وإسحاق رابين، ودافيد بن غوريون وغيرهم، عندما فرضوا بالقوة الكيان الصهيوني المؤقت عام 1948، أن هذا الكيان قام على رمال فلسطين المتحركة. لقد ظن هؤلاء أنه نتيجة للظروف المحلية والاقليمية والمعادلات الدولية التي كانت سائدة ٱنذاك على الارض والدعم الغربي الهائل الذي توفر للاحتلال، ان الدولة “الاسرائيلية” الجديدة ستختزل بالكامل وتطوي الى الابد وجود شعب فلسطيني بأكمله، بعد التطهير العرقي الذي قامت به العصابات الارهابية المسلحة، كي تمحو من ذاكرة التاريخ شعبا تجذر في ارضه ووطنه، كان له دوره في مواكبة حركة التطور التاريخي والإنساني، ولتحل مكانه قوافل شذاذ الٱفاق القادمين من خلف المحيطات والحدود لينعموا بأرض ويؤسسوا
كيانا مصطنعا، أتى على حساب وجود الشعب الفلسطيني.
رمال فلسطين التي أرادها الكيان الصهيوني ان تكون صلبة على الدوام، لم يضع في حسابه يوما، أنها رمال متحركة بدأت تفعل فعلها مع الوقت. فالاسترخاء عليها عام 1948، وما بعده لم يطل، إذ سرعان ما بدأت رمال فلسطين تتحرك تحت أقدام المحتلين، وتميد بهم، وتغوص اقدامهم فيها، عاما بعد عام، الى ان ياتي الوقت وتطمر رمال فلسطين المتحركة كامل الكيان المحتل ومستوطنيه.
من سوء طالع الصهاينة، أنهم في مواجهة مقاومة عنيدة، مستمرة، متصاعدة لشعب اسطوري لن تتوقف مطلقا مع الوقت، بل هي في تصاعد دائم ما دام الاحتلال لفلسطين مستمرا.
إن الفرق الأكبر بين مقاومة الشعب الفلسطيني برمته، وجيش دولة الاحتلال الاسرائيلي هو ان الفلسطيني لا خيار له سوى البقاء والنضال، واضعا نصب عينيه خيارا من اثنين: الشهادة او النصر. وهو على استعداد كلي ان يستميت من اجل الحفاظ على بقائه ووجوده، وارضه وهويته. هذه الإستماتة تتجسد اليوم في روح كل فلسطيني وفلسطينية. إذ ان العقود الماضية والوعي والحس الوطني صقلت شعبا بكل فئاته: اطفالا وشبابا ونساء وكهولا، ليشكل مقاومة صلبة في مجتمع واحد متراص، فريدة من نوعها على مساحة الجغرافيا الفلسطينية كلها. كل مواطن ومواطنة فيها، مقاوم في مجاله، غير مبال بالموت، والدمار الذي تلحقه به الالة العسكرية الاسرائيلية، فيما المستوطنون الغزاة من جهة اخرى، يحملون جنسيات البلدان التي قدموا منها، يحاربون من أجل الحفاظ على الغنيمة التي سرقوها عام 1948. فمالك الارض سيظل يلاحق السارق حتى النهاية ليستعيد حقه إذ أن الفرق شاسع بين ارادة المالك للارض وارادة سارقها.
إن الصراع الشرس الذي يدور اليوم على ارض فلسطين، هو بين ارادتين: ارادة اصحاب الارض والحق، وارادة السارق والمحتل. ولا بد لارادة اصحاب الارض من ان تنتصر في نهاية المطاف على ارادة المحتلين. هذا هو منطق التاريخ وعبره ودروسه على مر العصور، وهذه الحقيقة ترجمها المقاومون الفلسطينيون على الارض بكل قوة، عندما قام الاحتلال في عدوانه الأخير على قطاع غزة بهدم المنازل على ساكنيها وكيف انبرت من وسط الركام سيدة فلسطينية مقاومة، بكل شجاعة وعنفوان، غير عابئة بدمار بيتها، تهلل للمقاومين وتحييهم، فيما جنود الاحتلال والمستوطنون، يفرون من المستوطنات ،للبحث عن ملاجئ تأويهم!
غزة، هذه البقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 362 كلم٢ المخنوقة، والمحاصرة منذ سنوات من كل جانب، قامت بالأمس بتركيع دولة تملك ترسانة كبيرة من أسلحة الدمار الشامل، وإرباك قرار قادتها، وإجبار مستوطنيها على البقاء في اوكارهم، وشل حركة الكيان الاقتصادية والمالية، وتعطيل الخدمات في مرافقه العامة، واضعة مدنه ومستوطناته تحت مرمى صواريخها، ومستمرة في استبسالها، لتجعل من مقاومتها اسطورة من أساطير المقاومات التي لم يشهد العالم مثيلها.
ها هي جنين اليوم، بدورها، تعانق غزة، وكل فلسطين، تواجه المحتل ببطولة قل نظيرها. تلقنه درسا قاسيا في الصمود، وتبشره بمقاومة عنيدة لن تخمد قبل زوال الاحتلال، واجتثاثه من الجذور.
أي شعب هذا الشعب الفلسطيني المقاوم، الذي جعل مقاومته من عجائب المقاومات التي بهرت العالم ! لم يتعب، لم يستسلم لأمر الواقع الاسرائيلي، ولم يستكن؟! فمن أي معدن فريد جبل هذا الشعب المقاوم؟!
رمال فلسطين المتحركة لن تتوقف مطلقا عن تحركها. ستتعب “إسرائيل” ومعها العالم، ولن يتعب الفلسطينيون. هذه هي مقاومتهم تسري في اجسادهم وعقولهم كمجرى الدم في العروق.
مقاومة جاءت في موعدها مع القدر، وهي لكل الايام، والفصول، والسنين، لتقول لدولة الاحتلال المؤقتة، أن زمن فلسطين لم ينته في 14 أيار 1948، وأنك لن تنعمي بالأمن، والاستقرار، والبقاء، والسلام الوهم الذي تريدينه مهما طال الباغي. لطالما هناك أرحام فلسطينية تنجب على مدار الساعة إناثا وذكورا ينضمون الى قوافل المقاومين الأحرار.
شلومو غازيت، رئيس شعبة الاستخبارات الاسرائيلية الاسبق، لم يخف مخاوفه في مقالة له في صحيفة معاريف يوم 16 حزيران 2008، يقول فيها: ” منذ حرب الأيام الستة…نشهد مسيرتان: كل واحدة إذا لم تصد ولم تبدل، تنبئ بنهاية “إسرائيل” كدولة يهودية فيها أغلبية متماسكة من السكان هم يهود…المسيرة الاولى: هي المسيرة الديموغرافية. إذ إن تعداد الفلسطينيين اليوم يبلغ خمسة ملايين نسمة … وان عدد سكان” اسرائيل” هو 5.5 مليون نسمة بفضل الهجرة. ولكن الطاقة الكامنة للهجرة استنفدت نفسها. ومنذ سنوات يتوازن عدد المهاجرين القادمين مع عدد المهاجرين المغادرين. التوقع للمستقبل ليس ورديا، معنى استمرار هذه المسيرة ل10_15سنة أخرى، نهاية دولة اسرائيل اليهودية…
المسيرة الثانية: هي الاستيطان اليهودي في يهودا والسامرة، والتي تحركها قوة سياسية إيديولوجية هدفها توسيع حدود الدولة. ليس لنا أي سيطرة على الديموغرافيا الفلسطينية، ولكن حذار أن نسمح باستمرار الاستيطان من فعل أيدينا الذي يجلب علينا الدولة ثنائية القومية”.!!
“اسرائيل” بتركيبتها العسكرية والديموغرافية عام 2023، لم تعد القوة الأحاديةالمسيطرة التي كانت تستبيح الارض متى تشاء، وتعربد وتستعرض اعتداءاتها في أي وقت. هي اليوم أمام مد ديموغرافي وعسكري جارف، تجسده مقاومة بكل أبعادها الوجودية الانسانية،والقومية، والعسكرية، والاستراتيجية، عمادها وحدة المقاومات صفا وهدفا، وضعت نصب عينيها تحرير فلسطين. مقاومات تفرض معادلات القوة وتنسج خيوط النصر.
“إسرائيل” بعد اليوم لن تكتفي بالتهديد والوعيد فقط، هي أمام مرحلة جديدة من تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي،
وهو صراع ساخن مستمر، لن يتوقف.
فيه سيثبت مقاومو الأمة للعالم كله، ان رمال فلسطين المتحركة لم ولن تتقبل يوما أي احتلال. رمال ما كانت الا مقبرة للغزاة، وهي اليوم متشوقة أكثر من أي وقت مضى بمقاوميها لالتهام ٱخر المحتلين في هذا العالم، كما التهمت غيرهم عبر التاريخ.