ضجيج الخسارات القاتلة
بقلم علي زعرور
وتساقطت أوراق الخريف الأصفر حين خلعتني شهية الحياة تاركا مقعدي شاغرا كحالة ضوئية خافتة. تلك الثقة أصبحت جثة هامدة في كمين لا يجمّل ضجيج الخسارات القاتلة.
كنت أتوارى خلف انتكاستي الأولى بمزيد من الصبر وفائض من الحكمة، تلاحقني عيون الحقيقة كمذنب، وأنا أضحية المذبح وقربان التحمل ذي الأثمان الباهظة، مباح لمتطاول أدرك أن السلام ضعف والوقار انهزام والفجور فضيلة والحياد لغة الذين لا حيلة لهم في زمن أصبحنا كقصاصات ورق ممزقة تسخر منا ريح القيم والأخلاق ونصفر كحفيف الشجر في أزقتهم الخانقة بالوضاعة والنفاق.
هذا الوعي لم يتوّجني إله سلام أو رسول محبة، وتلك الوصايا التي تليت على مسامعنا حول الأخلاق الحميدة والتسامح وصلة القربى وذوي الأرحام والعفّة أخرجتني من محاكاة الرب إلى مجالسة الشيطان، والفضيلة التي كانت لبوسنا منذ النشأة الأولى عرّتني عند أول منعطف، فلا رادع لها في زمن التماهي بخبائث الأرض العفنة.
في جردة حساب لم ترجح كفة الميزان وكنت الخاسر الأكبر. يدفعني التساؤل حول التشكيك بالأمر، هل هي حماقة حين غضضت الطرف أمام إيحاءاتها الملتهبة شهوة؟ لماذا أوصدت أبواب الملاحقة ولم أستجب لتلك التي تهوى العبور فوق سرير اللذة؟ لماذا كنت أنيس روح ولم أكن أنيس شبهة ومجون ورذيلة؟
ربما كان الإنغماس في الخطيئة جعلني حاكما بأمر كل الأجساد الحالمة بالنشوة والعطشى للمطاحنة، لمَ لا ولسان عاهرة وفاسق جسر وصول لكل مبتغاك حين يكون الرضى كامل الأوصاف؟!
لست كيوسف حين تعفّفَ ظفر بحكم وسطوة، كان يعلم أن مفتاح عصره في يده وخزائن الأرض طوعاً لأمره، فالقياس لا يصلح في زمن تنقلب فيه المقاييس لنصبح فجيعة المساحات الواسعة والعقول الضيقة. لقد أيقنت كيف أنكتب بألم ولا أنكتب بقلم. نلمس جراحنا التي لم تبرد بجنون كاتب وفاعل وثائر وحاقد وحتى متهور يستحق ذكر اسمه كبطل من الدرجة الأولى في قصة الحياة التي أربكتها المصادفة، وأن تضعني وجها لوجه مع الوطن لا للتغزّل بتلك الظاهرة الغريبة إنما لإغلاق نافذة محمومة المخاطر لا محمومة الرؤوس المجنونة.
كانت صباحاتها تغلي فوق غمزاتها الجامحة، تنشر منديلها الأحمر من على شرفة فيها متعة يد وشغف يبوح لي بصخب، من منا يشعل الآخر؟ لما لا تستبدل رشفة فنجان من قهوتك الصباحية بمتعة مملؤة بالمخاطر ومشبوهة بالأفعال؟ حينها كنت رجلا لا يتقن فن اقتناص الفرص ومداعبة اللحظات الهاربة نحو اشتهائي، لم يكن جسدي تحت وطأة المشاع ولا ايديولوجيتي شيوعية المذاق، كان الإخلاص يجنح نحو وحدة الحب. ففي التعددية مذاق بلا نكهة وانزلاق نحو التكرار والإدمان الجسدي واللفظي المستهلك.
هناك نساء تبيع نفسها لأجل لذّة عابرة وفي بيعها تذكرة للهروب المتكرر من مساحتها الشاسعة، وهناك نساء تصونك لشغفها الدائم رغم ضيق المسافة. قد تبيعك الأولى فن الإمكان دون تكلفة، والثانية تعطيك فن التوحد بإغراء ابتسامة.
على بعد خطوة من إشتهاءاتها، كان” نيرونها” هذا الزوج الذي يركل العشق بخطوات سريعة كما يركل الكرة برجله، في منظاره الضيق لا يرى المرأة إلا كمرمى أهداف في أوقات عابرة، ويستعيد وجوده الضائع حين يصفق له جمهور من جحافل تنبح عند الطلب وتُشترى وقت الرخص الأكبر.
عند الجنون المتعدد اللهجات الذي يطرق أبوابك، نوافذك وحتى كُوّاتك العالية، يتسلل إليك برائحة اللهفة المخضبة بالقبول، تنتظر واجب الطاعة بلا تردد، حيث التعذّر الطلقة التي أشعلت غضبها المكبوت وتحول ثورة انضوت تحت شعارها كل العاهرات اللاهثات نحو التحرر.
يا لنصفي الخالي كيف وصلت اليه، كياني الضائع بين كثبان الفضيلة المخادعة، لا يعوّل عليها، إنها من لهاث سراب دُق فيه وتَدٌ أضاع من هرول نحوه بلا تردد، لقد كانت صفقة متحررة بلا مقابل وأضحت فكرة مجنونة بخسارة، تلك المرأة التي أبَيْتُ أن تكون عابر سرير تمرّدت وأصبحت عابرة جسور بكلفة عالية.
ثمة شيء لا تدركه إلا في عز انكسارك وخسارتك، يلزمك الكثير لتكتشف أن من حولك لزوم ما لا يلزم وأن فن اختزالهم هو فن الممكن، ربما تحتاج إلى الكثير من الخسارات الطاعنة في الوقت لتتخلص ممن كانت العاطفة تجنبهم الفرز رغم حملهم المثقل بالمتاعب.
ذات وقت ستخترع أناساً آخرين بطبعة مزورة لحياة أخرى، فالحياة الحقيقية يموت فيها زرع الأرواح المهادنة والأجساد التي تهوى السلام في زمن ثمّة من ينال منك بقصد إيذائك ويغتال حياتك لتصمد هويته الضائعة في متاهات الأصلاب المهاجرة.