مفعول النص الديني لا يسري على الجميع
خاض الوسط الدرزي نقاشاً محتدماً في الآونة الأخيرة حول زواج داليا جنبلاط، ابنة النائب السابق والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، من جوي الضاهر ابن بيار الضاهر صاحب المؤسسة اللبنانية للارسال. دار النقاش عما إن كان يجب أن نقبل، كدروز، بهذا الزواج الذي لطالما منعنا منه ونهينا عنه. بخاصة أن الزعامات الدرزية في لبنان تستند الى مرجعيات دينية تؤيدها وتتكلم باسمها وتستقطب مناصرين لأحزابها. لكن على ما يبدو، لم يعد النص الديني مقدساً بالنسبة إلى رجال الدين، على الأقل ليس بالنسبة إلى الجميع.
قد لا يفهم من ليس على احتكاك مباشر بالدروز هذه المعضلة. وقد يكون الأمر ضبابياً لكثيرين. بخاصة أن انغلاق الطائفة محكم، كما أن عمليات احتكار تفسير النصوص الدينية تطغى على معظم تاريخ الطائفة التي توصي أبناءها بالاستتار بالدين أمام أبناء الديانات الأخرى. لكن التابوه حقيقي وتحول إلى وصمة اجتماعية على أبناء الطائفة قبل بضع سنوات عندما أقدم والد وأخ فتاة من بيصور، إحدى المناطق الدرزية في لبنان، على قطع العضو الذكري لشاب مسلم تزوجت منه الابنة. وحتى الآن، ما زال الصيت يلحق أهل هذه المنطقة والدروز إجمالاً، لأن الجريمة شكلت علامة فارقة بنظرة الطوائف الأخرى الى خصوصية الزواج المغلق عند الدروز.
أتذكر صديقتي في أيام الثانوية خلال هذه الفترة. صديقتي التي أغرمت بشاب سني عندما كانت في السادسة عشرة. وبرغم سنها الصغير نسبياً وترجيحها أن العلاقة لن تدوم، قررت بعد فترة وجيزة الانفصال عن شريكها الذي كانت تحبه كثيرا. وعندما سألناها عن السبب أجابت: “أفضل ألا أتعلق به. أعرف أن معظم علاقات المراهقة تنتهي بعد فترة قصيرة. انتظرت انتهاء هذه الفترة القصيرة بعلاقتنا، لكن ذلك الوقت لم يأتِ. بل ازددت تعلقاً بالشخص الذي أغرمت به والذي أعي تماماً أن عائلتي لن تقبله”. كما أتذكر الجار الذي لا يصبح عليه أحد لأنه ارتكب جريمة الزواج من أسترالية.
قصص كثيرة كهذه القصة تتردد في الأوساط الدرزية التي تمنع الزواج من غير طائفة وتدرجه تحت العرف الاجتماعي الذي يستحيل كسره. تمتد هذه القيم الى مختلف العادات اليومية في البيئة الدرزية المحافظة. مثلاً، بحال وفاة أحد الدروز الذي تزوج من طائفة أخرى، قد يمتنع كثيرون عن التعزية. وإن قابلوا أحد أهالي المتوفى، يمتنعون عن التعزية بعبارة “الرحمة لروحه” بل يعزون بعبارة “البقية بحياتكم”. كأن الزواج من غير دين يسقط الحق بتلقي الرحمة من الآخرين ويجيز التمني بطول العمر لأولئك الذين لم يتزوجوا من غير دين.
والمثير للاستغراب أن هذا “التابو” الديني ليس حصراً على الأقلية الدينية بل يمتد الى الطوائف الأخرى في لبنان بنسب مختلفة. ولا يمارسه الملتزمون دينياً ورجال الدين وحسب، لكنه يمارس أيضاً من قبل غير الملتزمين دينياً. بينما تعد ممارسات أخرى مقبولة اجتماعياً بيد أنها أيضا مخالفة للدين كشرب الكحول وارتداء ملابس فاضحة والذهاب إلى البحر. وهذا مظهر من مظاهر عدة، حيث يتداخل الديني مع الاجتماعي فيعيد رجال الدين ترتيب أولوياتهم ليبيحوا ما نعرف جيداً أنه غير مباح ويغضوا النظر عن مفاهيم الحلال والحرام خالقين تراتبية لما يجب تطبيقه بالدين: تراتبية لأصحاب النفوذ حيث يباح كل شيء لحماية الطائفة وأخرى لعامة الشعب الذين يتكبدون معاناة وخسائر جمة لانتقائهم أزواجهم وزوجاتهم بمعزل عن تراتبية القيم الدينية الموضوعة لهم.
قبل داليا وجوي، تزوج نجل رئيس “حزب المردة” طوني فرنجية الماروني من امرأة مسلمة تدعى لين زيدان، وتزوج رئيس “حزب الكتائب” سامي الجميل الماروني من كارين تدمري السنية. كما أن داليا لم تكن أول الدروز ذات سلطة الذين تزوجوا من غير دين، فأبوها، وهو صاحب أكبر كتلة نيابية درزية في البرلمان منذ تسلمه منصبه إبان الحرب الأهلية، سبق أن تزوج امرأة شركسية من الأردن وتزوج نورا الشرباتي ابنة وزير الدفاع السوري الأسبق أحمد الشرباتي. ناهيك بتعدد الزوجات وتهم المثلية الجنسية والزواج من خارج الطائفة وهي تهم تلاحق العائلة الحاكمة في الجبل. بعضها مؤكد والبعض الآخر لم ينكر قط لأن لا واجب يقع على عاتق البيك وأبنائه بالتطرق الى حياتهم الجنسية وتبريرها أمام الرأي العام. ولا خسارة يتكبدونها لأنهم يملكون حق الاختيار، بعكسنا نحن. لكن هنا تطرح أسئلة أخرى عن حقنا نحن كلبنانيين باختيار الشريك، إذا كنا لا ننتمي الى عائلة غنية أو سياسية أو اقطاعية.
من يحفظ حقنا باختيار شريكنا أو شريكتنا؟ لا أحد. هل سيبيح زواج الدرزية داليا جنبلاط من مسيحي زواج درزيات أخريات من “برات الطائفة”؟ أو هل سيسمح زواج طوني فرنجية بزواج الموارنة من طائفة أخرى؟
لا أعتقد فزواج غيرهما لم يفتح المجال أمام أحد للزواج من طائفة أخرى. وان اختارت المرجعيات الدينية والطائفية أن تغض الطرف عن زواج الشخصيات السياسية من غير طائفة، فذلك لا يعني إطلاقاً أنها ستوقف حربها ضد القانون الموحد للأحوال الشخصية وسن قوانين للزواج المدني في لبنان. بل السلطة ذاتها التي لم تحرك ساكناً أمام زواج داليا أو طوني أو سامي تشرع زواج القاصرات وتغطي على رجال دين متهمين بالتحرش الجنسي والبيدوفيليا أمثال منصور لبكي. كما أنها ما تنفك تعلن الحرب على المثليين وتتغاضى عن تعدد الزوجات في الطوائف التي لا تسمح به.
لكن ذلك لا يعني أن أمثال داليا وطوني أصبحوا نموذجاً للثائرين على العادات والتقاليد، وأن علينا كنسويات ونسويين وداعمين للدولة المدنية أن ندعمهم في “حربهم” التي يخوضونها ضد العادات والتقاليد. عندما نناضل من أجل قانون موحد للأحوال الشخصية أو زواج مدني، نطالب بحريتنا واستقلالنا عن السلطات الدينية المدعومة سياسياً من نظام تمثله داليا وأمثالها. وعندما يختار هؤلاء أن يتزوجوا بمحاكم مدنية، فذلك لا ينم إلا عن خيار شخصي لديهم المال والامتيازات لاختياره مجاهرين بينما نمنع نحن كطبقة متوسطة أو فقيرة من القيام بالاختيار ذاته كيلا نتحمل الأعباء المادية للسفر والأعباء الاجتماعية لحرية الاختيار.
سيبقى الزواج من غير طائفة ممنوعاً في مجتمعاتنا الضيقة. وأنا أحترم حرية الذين يختارون الزواج من الدين ذاته. وأدرك أن مقالي هذا لن يقلب موازين القوى لمصلحة الأقلية في مجتمع الأقلية الذين يرفضون محدودية الخيارات والالتزام بالقيم الدينية التي لا مبرر لسموها على القيم الدينية الأخرى. بخاصة أن الدين ليس بالمقدس في مجتمعاتنا، لكنه يصبح كذلك عندما يستخدم أداة للسلطة. أما بشكل عام، الخروج عن القواعد الدينية أصبح أمراً طبيعياً ومقبولاً بخاصة عندما يتعارض الدين مع المصلحة الشخصية أو الاقتصادية.
درج