شؤون إقتصادية

مصرف لبنان: سيادة مانعة للمساءلة واستحواذ فاقد للشرعية

عبر سؤال مشروع ومحق، تناول الخبير المالي والاقتصادي الدكتور عماد عكوش موجودات المصرف المركزي بما فيها شركة طيران الشرق الاوسط والذهب وتساءل عن عودة ملكيتها للمودعين، فكتب:

إن مصرف لبنان ليس ككل المصارف المركزية في العالم حيث يتمتع بصلاحيات واسعة بموجب قانون النقد والتسليف والذي يجيز له التصرف بكل موجوداته والتدخل في السوق متى أراد، إعطاء القروض المدعومة لمن يريد من أشخاص ومؤسسات وبنوك، التصرف بالإحتياطي من العملات الصعبة وبيعها بالسعر الذي يراه مناسبا، بيع العقارات المستملكة دون أي مناقصة أو إعلان، دفع الرواتب التي يريدها للموظفين لديه وبالحجم الذي يرتأيه إضافة الى توزيع المكافآت التي يراها مناسبة. إنه دولة ذات سيادة كاملة على موجوداته وودائع الناس بحيث يتصرف بها كما شاء ويشاء.

إن مصرف لبنان لا يخضع لأي رقابة مستقلة حقيقية بل ان الرقابة عليه ماليا” وإداريا” هي رقابة صورية لا ينتج عنها أي مفاعيل. وبعد الأزمة المالية والاقتصادية التي بدأت نهاية العام 2019 أضيف إليها الحماية الطائفية للحاكم والتي جعلته في مرتبة الآلهة الذين لا يحاسبون.

إضافة الى ما تقدم فإن مصرف لبنان وعلى رأسه الحاكم لجأ الى الاستحواذ على بعض الشركات والمصارف والعقارات وبالتالي استعمال ودائع المصارف التجارية لتسديد أثمانها وتسديد قروضها أو تمويل عملياتها.

ومن أهم هذه الموجودات:

شركة الميدل إيست

تأسست شركة الميدل إيست سنة ١٩٤٥، وتم دمجها مع شركة إيرليبان عام ١٩٦٣. وقد عانت قبل العام ١٩٩٨ من خسائر كبيرة مما رتب عليها ديون كبيرة لصالح المصارف التجارية تجاوزت قيمتها أربعمائة مليون دولار.

وما بين العام ١٩٩٨ والعام ٢٠٠٢ قامت الشركة بإعادة هيكلة نفسها بشكل شامل مما أدى إلى انقلاب في الوضع المالي لها من خسائر سنوية بمقدار ٨٧ مليون دولار سنويا” إلى أرباح سنوية تعادل حوالي ٥٠ مليون دولار سنويا. كما تم منح مساعدة خاصة للشركة لدفع كلفة الهيكلة بلغت حوالي ١٥٦ مليار ليرة لبنانية دُفعت تعويضات لموظفين تم التخلي عنهم، وهي المرة الأولى التي تمنح فيها مؤسسة مملوكة من قبل الدولة منحة خاصة. علمًا أنه تم إعادة فتح التوظيف مجددا” خلال الفترة اللاحقة وإدخال عدد مماثل للذين تم التخلي عنهم في مرحلة إعادة الهيكلة.

وبالرغم من انها مملوكة بشكل كاما من قبل الدولة اللبنانية عن طريق مصرف لبنان، أجرت صفقتين لشراء طائرات دون إجراء مناقصات عمومية ودون نشر تفاصيل عن عملية التمويل والجهة الممولة  وشروط الشراء ومعدلات الفوائد. تمت الصفقة الاولى سنة ٢٠١٢، لشراء عشرة طائرات من طراز ايرباص ٣٢١ – ٣٢٠ A اتفق على تسلمها في العام ٢٠١٨ ، وبلغت قيمتها ١,٥ مليار دولا، كما تم إجراء صفقة اخرى خلال العام ٢٠١٩ لشراء أربع طائرات من طراز أيرباص A321XLR بلغت قيمتها ٦٦٠ مليون دولار على ان يتم تسليم الطائرات خلال العام ٢٠٢٠.

فأين هي الشفافية التي تطالب بها المصارف يا سعادة الحاكم؟ وأين هي الضوابط التي تطالب بها الحكومة؟ والسؤال الأهم، البعض يقول إن قيمة الشركة لا تتجاوز ملياري دولار، فكيف تستدين أكثر من ملياري دولار في حين لا تزيد كامل قيمة موجوداتها عن الملياري دولار؟

بالرغم من إمتلاك الدولة اللبنانية لها، إلا إنها لا تخضع لرقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي. هناك اتجاه لدى مصرف لبنان والحكومة اللبنانية لطرح جزء من أسهم شركة الميدل إيست للإكتتاب العام ولكن لم تتوفر لغاية اليوم شروط هذا الطرح، ويأتي في مقدمتها:

١- وجود بورصة وسوق مالي متخصص وقادر على استيعاب طرح أسهم هذه الشركة وشركات أخرى مثل كازينو لبنان وشركة انترا.

٢- عدم الشفافية في هذه الشركة والتي تمثل أهم بند من شروط طرح أي شركة للطرح العام حتى يكون المستثمر على بينة من أمره بخصوص أرباح الشركة وقيمتها السوقية والعائد المتوقع.

٣- عدم إستقلالية إدارة الشركة لغاية اليوم عن السياسة والتعيينات التي تتم فيها بناءً على محسوبيات السلطة السياسية وليس الكفاءة .

إن تسديد ديون الشركة جرى من قبل مصرف لبنان ومن ودائع اللبنانيين كما أن كل الصفقات التي قامت بها هذه الشركة جرى تمويلها من قبل مصرف لبنان بالدولار الاميركي وبالتالي فإن كل موجودات هذه الشركة تعود للمودعين بالدرجة الاولى ومن حقهم ان يقوموا بالحجز على كل موجوداتها.

الذهب 

يحتل لبنان المرتبة الـ20 عالميا في احتياطي الذهب، وفق تصنيف مجلس الذهب العالمي، ويتصدر المرتبة الثانية عربيا بعد السعودية (لديها 323.1 طنا). إذ يملك 286.8 طنا، أي نحو 10 ملايين أونصة تناهز قيمتها 17 مليار دولار.

إن الحكومات اللبنانية المتعاقبة ما بين الاستقلال وأوائل السبعينيات استمرت في شراء الذهب لتغذية احتياطي مصرف لبنان المركزي، وذلك من فائض الموازنة والضرائب التي تأخذها من المواطنين.

وفي العام 1986، صدر القانون اللبناني رقم 42 الذي ينص على الآتي: “بصورة استثنائية وخلافا لأي نص، يمنع منعا مطلقا التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب”.

وفي العام 1996، أقرت الحكومة اللبنانية اتفاقية عقود إصدار سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، وتنص بأحد شروطها على أن على الدولة اللبنانية تخضع لقوانين محاكم نيويورك لحل النزاع بينها وبين الدائنين، ويقتضي تخلي الدولة عن سيادتها على موجوداتها الخارجية إذا تخلفت عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية. والذهب أهم هذه الموجودات الخارجية ما يعني أن الدولة بحكم المتخلية عن أصولها الخارجية بعد التخلف لأول مرة عن سداد مستحقات اليوروبوندز في مارس/آذار 2020 بعهد حكومة حسان دياب.

إن التصرف بالذهب لا يتعلق بإرادة لبنان واللبنانيين وحدهم  بل هو رهن قرار مشترك مع جهات خارجية، وفي طليعتها واشنطن وصندوق النقد الدولي والدول القادرة على شرائه وتحمل عمليات نقله. ودول عديدة مثل ألمانيا واجهت مصاعب كبيرة لاسترجاع ذهبها المحفوظ في أميركا.

إن نقل الذهب يستوجب إجراءات معقدة مرتبطة بالأطراف المعنية به وليس بالدولة التي تملكه فحسب، وخيار رهنه أهون من خيار بيعه، لأنه يكون بمثابة كفالة لا تتطلب نقله.

لكن في النهاية، وكما أن عملية شراء الذهب تمت من فائض الموازنات في السابق، فإن عجز هذه الموازنات_ والذي كان يجب ان يتم تمويله من مصرف لبنان عبر طباعة الليرة-  قام المصرف المركزي والحكومة اللبنانية بتمويله من ودائع المواطنين. لذلك يجب أن يتم إعادة تصويب ما حصل من خلال إعادة ما تم استخدامه من قبل المصرف المركزي والحكومة الى أصحابه وهم المودعين سواء بتملك الذهب أو ما ينتج عن عملية بيعه أو استثماره.

الإستحواذ على المصارف 

المصرف المركزي يشكّل السلطة النقدية الناظمة لعمل المصارف في البلاد. يضم القطاع المصرفي اللبناني 69 مصرفاً موزعاً بين 45 مصرفاً تجارياً، 16 مصرفاً للإستثمار والتسليف المتوسط والطويل الأجل، خمسة مصارف إسلامية، وثلاثة مصارف خدمات خاصة.

شكلت فترة الحرب الاهلية، والتي امتدت من العام 1975 حتى أواخر العام 1990 بتأثيراتها الكارثية على الاقتصاد اللبناني والعملة الوطنية وعلى الناتج المحلّي الإجمالي الذي إنخفض الى النصف، نقطة التحول الأساسية على صعيد المالية اللبنانية وانهيار الليرة عام 1983. ما أدى الى تزعزع النقد الوطني وخسارة العديد من اللبنانيين من قيمة مدّخراتهم وثرواتهم. هذه الأحداث أوجدت مفترق طريق لأداء وسياسة مصرف لبنان، حيث عمد الحاكم الجديد رياض سلامة الذي عيّن في العام 1993 الى اتباع سياسة نقدية جديدة ركزت على احتياط الذهب وتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.

نذكر هنا ان مصرف لبنان وبنتيجة للصلاحيات الواسعة التي يتمتع فيها الحاكم ودون أي رقابة جدية قام بالاستحواذ على عدة مصارف خلال السنوات الماضية ومنها مصرفين نتيجة العقوبات الاميركية. فقام مصرف لبنان بتسديد الودائع للمودعين من الاحتياطي الموجود لديه مقابل وضع يده على كامل موجودات هذه المصارف المادية وغير المادية. من هذه المصارف:

بنك الجمال 

بعد اتخاذ الولايات المتحدة الاميريكية قراراً بوضع بنك الجمال على لائحة العقوبات وثلاث شركات تأمين مملوكة منه تم اللجوء الى التصفية الذاتية، استناداً إلى المادة 17 من القانون 110 وتم تعيين مصفّ ومشرفٍ على عملية التصفية، وتسديد الحقوق عبر بيع الموجودات وضمانة المؤسسة الوطنية لضمان الودائع.

وتنص المادة 17 على تفاصيل التسوية الحاصلة وتشير إلى أنه يمكن لمصرف من المصارف في حال لم يعد قادراً على متابعة أعماله أن يعرض على مصرف لبنان تمليكه موجوداته والتفرّغ عن حقوقه كلياً أو جزئياً مقابل تأمين السيولة اللازمة للإيفاء بالتزاماته ومطلوباته. وتنصّ أيضاً على أنه «إذا تبيّن للمجلس المركزي، بعد تخمين قيمة الموجودات الثابتة والحقوق العائدة للمصرف المعني، مضافاً إليها عند الاقتضاء كل أو جزء من قيمة ضمانة المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، أن قيمتها كافية لتسديد كامل الودائع لديه وباقي التزاماته، يعود للمجلس المركزي بصورة استثنائية أن يوافق على تملّك الموجودات وقبول التفرّغ عن الحقوق كلياً أو جزئياً شرط أن يقترن قرار تعيين المصفي بموافقة حاكم مصرف لبنان وأن تجري التصفية بإشرافه ومراقبته”. أما عملية التصفية، فهي عبارة عن ردّ الودائع لأصحابها في وقت استحقاقها. وتصفية الموجودات تجري، بحسب مصادر مطلعة، على أساس القرارات التي تصدر عن المحكمة المصرفية المنشأة بموجب القانون 110 أي أنها تشمل التعامل مع محفظة قروض بنك الجمال، ومع الأصول الثابتة التي يملكها سواء كانت عقارية أو توظيفات في السندات أو سواها…

في بعض الحالات، تم نقل الموجوادت إلى المؤسسة الوطنية لضمان الودائع لبيعها، إلا أنه ليس بالضرورة أن تتمكن المؤسسة من تصفيتها. وقد حصلت حالات مشابهة مثل تصفية بنك المغترب وبنك مبكو وسواهما من المصارف التي وضع مصرف لبنان يده عليها والتي لا تزال عقاراتها معروضة للبيع لكن من غير المعروف كيف ومتى.

البنك اللبناني الكندي 

إختلفت الإجراءات التي تم اتباعها مع البنك اللبناني الكندي بعد وضعه على لائحة العقوبات من قبل الولايات المتحدة الاميركية. حيث أنه بعد 4 أشهر تقريباً من موافقة مجلس إدارة مصرف «Societe Generale» في لبنان (SGBL) على مشروع شراء بعض أصول وموجودات «البنك اللبناني الكندي»، جرت أخيراً الموافقة النهائية من جانب مصرف لبنان عليه. وأوضح المصرف أرقام مجموعته الإقليمية (101 فرع و135 صرّافاً آلياً) كما يلي: 11 مليار دولار مجموع الموجودات، و8.6 مليارات دولار الودائع، و3 مليارات دولار مجموع القروض.

يُشار إلى أنّ المفاوضات بين المصرفين أدت إلى صيغة لإبرام الصفقة لا تتضمن شراء أسهم «البنك اللبناني الكندي» من المساهمين فيه بل بيع أصوله وموجوداته ما عدا الحسابات المشكوك فيها، التي ستبقى خاضعة للتدقيق والملاحقة، بقيمة 580 مليون دولار.

هنا من الطبيعي ان مصرف لبنان أيضا” قدم القروض المعتادة وفقا” للقانون 110 لتمويل هذه الصفقة ومن أموال المودعين.

كازينو لبنان 

يُعدّ الوحيد في لبنان الذي يملك ترخيصاً لألعاب القمار، إذ صدر في عام 1954 مرسوم جمهوري قضى بحصر ألعاب الميسر في كازينو لبنان (افتتح ليلة رأس سنة 1959)، واستمر الكازينو في العمل خلال الحرب الأهلية، واستفادت منه الميليشيات إلى أن أقفل عام 1989 بسبب تدمير أجزاء كبيرة منه. وأعيد افتتاحه عام 1996 بعد أن وقّعت إدارة الكازينو مع الدولة إتفاقية تسمح بموجبها بالاستثمار الحصري لألعاب الميسر في لبنان لمدة 30 عاماً.

وتعود ملكية الكازينو إلى كل من:

– شركة “إنترا” التي تحوز 52% من الأسهم (يمتلك مصرف لبنان 33 في المئة من أسهم إنترا).

– شركة أبيلا التي تملك 17% من الأسهم.

– مجموعة بنك عودة 7%.

– وتتوزع الأسهم الباقية على عدد من المساهمين، جزء منهم غير معروف.

وتعتبر صالة ماكينات “سلوت ماشين” الصالة الأبرز التي يتم تهريب هذه الأموال عبرها وهي التي تدرّ نحو نصف أرباح الكازينو.

كل هذه الموجودات وأخرى غيرها هي ملك مصرف لبنان تم الاستحواذ عليها من خلال إحتياطي مصرف لبنان، وبالتالي من خلال ودائع الناس والتي تصرّف بها الحاكم الحالي ومن سبقه. وبالمحصلة، ما هو ملك لمصرف لبنان هو بطبيعة الحال ملك المودعين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى