كرة الثلج تكبر، بيروت الاولى تطرح التقسيم بهدف الإنماء
تخوض الأحزاب المسيحية سباقاً لتقسيم بلدية بيروت إلى بلديتين، شرقية وغربية. لم تعد القسمة بين «من يحبون الحياة» ومن لا يحبونها، بل ــ وبكل وقاحة ــ بين المسيحيين والمسلمين، وإن «طُربش» ذلك بعناوين «حق يراد به باطل» حول الإنماء المتوازن، وهو بالمناسبة «اللاإنماء» المتوازن. جولة صغيرة في شوارع «البيروتين» تبيّن أن «ما حدا أحسن من حدا» وأن المشكلة الأساس في المجلس البلدي الحالي والمجالس التي سبقته، والتي كانت هذه القوى مساهمة دائمة في تشكيلها، وشريكة في قراراتها. باب جديد يُفتح لمزيد من الانقسام الطائفي فوق جثة!
رغم الخلافات السياسيّة الداخلية بين كل من التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية وبقية الأحزاب المسيحيّة، توحّد هؤلاء على تقسيم بلدية بيروت إلى بلديتين. يختصر الخطاب الطائفي على لسان مسؤولي الطرفين كل الحكاية، ولو أن البعض ينمّق الكلام ويعتمد تبرير أن المجلس الحالي لا يعمل وأن الإنماء غير متوازن. فبدل مجابهة الفساد المستشري داخل المجلس البلدي الذي أتى بفعل تسوية بين أحزاب السلطة عام 2016، قرّر هؤلاء أن يقطعوا عنق المحاصصة بالعودة إلى خطاب «بيروت الشرقية» و«بيروت الغربية»، مع اعتماد تسمية «بيروت الأولى» و«بيروت الثانية».
البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يوحي وكأن أهالي «بيروت الأولى» يعيشون على نفقة أهالي «بيروت الثانية»، لافتاً إلى ارتفاع نسبة الجباية في بيروت الأولى عن مثيلتها في بيروت الثانية. ولا يتردّد منسق منطقة بيروت في القوات سعيد حديفة بالقول، بالفم الملآن، إن «أهالي بيروت الأولى يدفعون جزية تماماً كما كان يحصل إبّان العهد العثماني… لم نعد نريد دفع الجزية ولا الاستمرار بالصيغة نفسها».
كل الأحزاب المسيحية التي تدافع عن فكرة تقسيم بلدية بيروت مقتنعة بأن طريق الجديدة، مثلاً، تأخذ حقها في الإنماء أكثر من الأشرفية، وأن منطقة زقاق البلاط تتمتع بحظوة في البنى التحتيّة أكثر من الرميل، وأن الأموال التي تُدفع لتقديم الخدمات لمنطقة الخندق الغميق تفوق تلك التي تحظى بها منطقة المدوّر، وأن النفايات تغيب تماماً عن كورنيش المزرعة، وأن شبكة الصرف الصحي تكاد تكون «خمس نجوم» في حي اللجا، ويندر إيجاد حفرة واحدة في شوارع المصيطبة. هؤلاء الذين يبدو أنهم لم يطأوا يوماً بيروت الثانية، على قناعة تامّة بأنها في أحلى أحوالها على حساب بيروت الأولى «المهملة»، على حد وصف حديفة.
«حلم البلديتين» يعود عمره إلى سنواتٍ طويلة، وتكفي الإشارة إلى كلام رئيس حزب القوات سمير جعجع أمام بعض القواتيين، قبل انتخابات 2016، بأنها ستكون المرة الأخيرة التي تُخاض فيها الانتخابات على أساس بيروت بلدية واحدة. ومع انكفاء تيار المستقبل الذي ثبّت المناصفة (12 عضواً مسلماً و12 مسيحياً) باتت الخشية أكبر من تطبيق التقسيم.
لذلك، بدأت الأزمات تتلاحق منذ انفجار المرفأ لتحضير الأرضية الخصبة للتقسيم، عبر الإيحاء بأن الانفجار استهدف «بيروت المسيحية»، وأن بلدية بيروت تلكّأت في معالجة آثار الكارثة. ورغم أن التقصير البلدي حاصل في كل المجالات، وفي كل من «البيروتين»، يؤكد أعضاء في المجلس البلدي أن الأخير «صرف مبلغ 50 مليار ليرة كتعويضات، إلا أن ديوان المحاسبة أوقف هذا القرار، علماً أن الانفجار كان أكبر من قدرة الوزارات المعنية على التعامل مع نتائجه، فكيف بالبلدية».
هكذا، بدأت كرة الثلج تكبر. وانتظر المعنيون اقتراب موعد الاستحقاق ليبدأ النائب القواتي غسان حاصباني النقاش حول ضرورة تقسيم البلدية إلى بلديتين، مبرراً ذلك بأنّ قانون الانتخابات يقسّم العاصمة إلى دائرتين انتخابيتين، ليلاقيه التيار الوطني الحر في «الاستثمار» في هذا الملف والتلويح بتقديم الأعضاء المحسوبين عليه استقالاتهم تماشياً مع الأعضاء المحسوبين على «القوات».
اقتراحا قانون للتقسيم
ولأن المعركة الإنمائيّة تحوّلت إلى معركة «حماية حقوق المسيحيين»، وصل «تكتل لبنان القوي» إلى مجلس النواب أوّلاً. إذ تقدّم النواب: إدغار طرابلسي ونقولا صحناوي وسيزار أبي خليل باقتراح قانون يرمي إلى استحداث بلديتين في بيروت، تضم الأولى: الأشرفية، الصيفي، الرميل، المدوّر والمرفأ، وتشمل الثانية: ميناء الحصن، الباشورة، رأس بيروت، المصيطبة، زقاق البلاط وعين المريسة. وينص الاقتراح على أن «تتمتّع كل بلدية بالاستقلال المالي والإداري والسلطة التقريرية التي تمكّنها من ممارسة عملها ضمن نطاقها الجغرافي وتبقى خاضعة لسلطة المحافظ التنفيذية، على أن يجتمع المجلسان في جلسة مشتركة شهرية وفقاً لجدول أعمال محدد سلفاً على أن تحضر كل بلدية جدول أعمالها».
وإذا كان العونيون والقواتيون قد اتفقوا على فكرة «تشليع» البلدية إلا أنهم لم يتفقوا على التفاصيل. ولذلك، لم يتبن نواب القوات اقتراح القانون المقدّم من قبل «لبنان القوي»، بل يعملون على اقتراح قانونٍ ثانٍ «عندما يحين الوقت المناسب وبعد أن نكون قد دققنا بتفاصيله وناقشناه مع القوى الأخرى»، وفق ما يقول حاصباني لـ«الأخبار»، رافضاً وصف التقسيم بـ«الطائفي»، باعتبار أن نحو 15% من أهالي بيروت الأولى ليسوا مسيحيين، «لكن المشكلة تكمن في الإنماء غير المتوازن بين المنطقتين وهذا ما يظهر بشكل جلي في نفقات البلدية، على اعتبار أن أعضاء المجلس البلدي الذين يمسكون بزمام الأمور ويديرون الدفة يعملون على استرضاء الأوزان الناخبة».
ويلفت حاصباني إلى أن «هؤلاء الأعضاء الذين ينفردون في القرارات والأولويات وإدارة البلدية لا يهتمون بمبدأ المحاسبة لأنهم يدركون أنهم سيصلون مرة ثانية إلى البلدية بغض النظر عن أصوات ناخبي بيروت الأولى. لذلك، نريد أن يتم فرز المجلس بالمحاسبة وهذا لا يحصل إلا بقرب الناخب من المنتخب من أجل الحفاظ على سيرورة العمل البلدي»، مشدداً على «أننا مع وحدة بيروت، في حين أن الذين يستخدمون الخطاب الطائفي لمنع هذا المشروع يريدون حرف الأنظار عن أهدافه الحقيقية في معالجة الخلل الحاصل».
حاصباني نفى أن تكون المعضلة الحقيقية في تعطيل المجلس البلدي هي إناطة السلطة التنفيذيّة إلى محافظ بيروت. وهو أيضاً ما يردده النائب نقولا صحناوي، الذي يشير لـ«الأخبار» إلى أن «شدّ الحبال بين المحافظ ورئيس البلدية ينتفي في حال تم تقسيم البلدية، بالتالي فإن القوى المسيحية تتفاهم في ما بينها لتمرير المشاريع المتوقفة»، معتبراً أنّ المناصفة في خطر بفعل الديموقراطية وكثرة اللوائح في الاستحقاق المقبل.
منسق القوات في بيروت يلفت إلى أن «هناك من يتهمنا بأننا نريد تقسيم لبنان وأننا أصحاب مشروع انعزالي، في حين أن كل همنا هو تنفيذ المشاريع لأبناء بيروت الأولى»، معدداً مشاريع لم تنفذ كمشروع حديقة السيوفي واليسوعية، مضيفاً: «اعطونا البلدية وسترون كيف يمكننا تنفيذ المشاريع بعد فترة وجيزة ومجاناً». ودعا حديفة إلى «استفتاء شعبي لأبناء منطقة بيروت الأولى على نفقة نوابها للتأكيد أن أكثر من 80% منهم يريدون هذا التقسيم بسبب حرمانهم من الخدمات والمشاريع»، واصفاً الكلام عن أهمية وحدة المجلس البلدي بأنه «مجاملة كاذبة».
في المقابل، يؤكد عضو المجلس البلدي عبدالله درويش «أن تقسيم البلدية يعيدنا إلى زمن الحرب الأهلية وفي حال أصرّوا على الأمر فإننا أيضاً نطالب بإعطاء الصلاحيات التنفيذية للمجلس البلدي المعطاة حالياً للمحافظ». وعن الإنماء غير المتوازن، دعا «زملائي إلى جولة على الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة وزقاق البلاط والخندق الغميق… ليتأكدوا أن هذا الأمر غير صحيح إطلاقاً».
«بعض القوى السياسية أخذت الموضوع إلى البازار السياسي باستخدام الغرائز الطائفية ليتحوّلوا إلى أبطال على الساحة المسيحية»، بحسب عضو المجلس البلدي أنطوان سرياني، مشيراً إلى أن «من الواضح وجود سباق شعبوي على تقسيم بلدية بيروت تحت ذرائع مختلفة وللأسف إن من يطالب بالتقسيم لا يفقه بطريقة عمل المجلس البلدي»، مطالباً بـ«تكريس المناصفة بقانون ومن دون تقسيم».
في المحصلة، فإن الجميع متأكد أن مشروع تقسيم البلدية هو «طبخة بحص»، فلا هو سيطرح في الجلسة العامّة ولا سينال الأكثرية، ولكن النية أبعد من ذلك. هؤلاء يقولون إنّه بغض النظر عن مصير الملف في المجلس النيابي، «ولكننا نجحنا في وضعه على الطاولة إلى حين طرح أي تعديل دستوري أو تسوية شاملة»!
الأخبار