متفرقات

مكننة وأرشفة المحاكم على يد مَن؟

يستمر العمل على مكننة وأرشفة المحاكم في لبنان، بدعم من وزارة الخارجية الأميركية – المكتب الدولي لمكافحة المخدرات وانفاذ القانون (INL)، وبتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، أما التنفيذ فهو على عاتق المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة (ACRLI).

بعد انهاء المرحلة الأولى في العام 2010 وتوقف المشروع لحوالي ثماني سنوات، بوُشر العمل به من جديد في كانون الثاني 2018، والهدف الرئيسي المعلن مكننة وأرشفة المحاكم في لبنان، ومن ضمنها محكمة التمييز، وتدريب كتبة المحاكم على استخدام النظام الجديد.

بعد مراجعتنا للجريدة الرسمية ابتداءً من العام 2000، لم نجد أي خبر عن هبة أو مذكرة أو اتفاق أو تعاون بين وزارة العدل والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، باستثناء الاعلان الصادر عن السفارة الأميركية في 15 حزيران 2009، وفيه ان الوكالة الأميركية الدولية ستموّل اعادة بناء وترميم محكمة بيروت التنفيذية الكائنة في قصر العدل، وتجهيز المكاتب بالأثاث ومعدات تكنولوجية، وبنظام عصري لحفظ ملفات القضايا في المحكمة.

وصرّحت مديرة الـ USAID آنذاك، دنيز هيربول، بأنها وقَّعت اتفاقًا مع وزير العدل اللبناني ابراهيم نجار، وأوضحت أن المبلغ المرصود للمحكمة يبلغ 750 ألف دولار من أصل القيمة الاجمالية للمشروع البالغة 8 ملايين دولار، وتهدف الى تعزيز البنى التحتية وتفعيل امكانيات معهد الدروس القضائية.

التمهيد لهذا المشروع بدأ بالاستحصال على موافقة من مجلس الوزراء بتاريخ 15/11/2008 على مرسوم صادر عن وزارة الداخلية والبلديات يحمل الرقم 876، وينصّ على منح ترخيص لإنشاء فرع لجمعيةٍ أميركية باسم «المركز الوطني لمحاكم الولايات المتحدة الأميركية» (NCSC) مركزه بيروت، منطقة المرفأ العقارية، العقار رقم 1354 الأقسام (208-209) – مؤسسة أمديست لبنان.

الهدف المصرَّح عنه في المرسوم هو تحسين ادارة النظام القضائي، وتعزيز ودعم الأبحاث والتعليم والتدريب والدراسات، ومساعدة المنظمات التي تعمل في مجال ادارة النظام القضائي.

بدأت جمعية «المركز الوطني لمحاكم الولايات المتحدة الأميركية» (NCSC) العمل على المرحلة الأولى من مشروعها في لبنان منتصف كانون الأول 2007 وحتى نهاية 2010، تحت عنوان: «تعزيز استقلال القضاء»SICJCAJ بتمويلٍ من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID. وبالعودة إلى التقرير النهائي للوكالة، الصادر في 2 كانون الأول 2010، بدأت الجمعية العمل على الأراضي اللبنانية منذ كانون الأول 2007، وقامت في ايار 2008 باستئجار مكاتب لها في ساحة ساسين في الأشرفية، إضافة إلى مكتب آخر في مدينة طرابلس.

يتألف المشروع من خمس مهام أساسية، أُضيفت اليها ثلاث أخرى في ربيع 2009، وتم تقديم هذه المهام الثماني وشرحها بالتفصيل في التقرير النهائي للوكالة المكوّن من 358 صفحة، والصادر في كانون الثاني 2010، بعد الانتهاء من المرحلة الأولى، ويضمّ مجموعة من التوصيات والمهام المنفذة.

المهام المطروحة في المشروع

المهمة الأولى: تطوير قدرات معهد الدروس القضائية من خلال العمل على المناهج الدراسية وطرق التدريب المعتمدة في المعهد، وتحسين عملية اختيار المرشحين، والعمل على تجهيز المعهد بشكل يتناسب مع المتطلبات.

المهمة الثانية: تحسين استقلالية القضاء. وقد ساعد المشروع في التوصل إلى مشروع قانون يساهم في دعم استقلالية القضاء، وأتمَّ إنجاز المدونة الأخلاقية الخاصة بالقضاة، وأُرسِلَ بعض القضاة إلى الولايت المتحدة وفرنسا في بعثاتٍ دراسية، وقُدِّمت المساعدة الفنية لتحليل الميزانية القضائية، واصدار توصية لتعزيز دور مجلس القضاء الأعلى في اعداد ميزانيات المحاكم.

المهمة الثالثة: إصلاح ادارة المحاكم. اقترح المشروع بالتعاون مع وزارة العدل تحديد إحدى المحاكم لتحويلها إلى محكمةٍ نموذجية، كنموذج لتنفيذ اصلاحات مستدامة في ادارة المحاكم، واعتُمدت محكمة التنفيذ في بيروت لهذا الأمر، كما بدأ العمل على محكمتين تنفيذيتين في محافظة جبل لبنان.

المهمة الرابعة: تحسين الوصول للعدالة من خلال دعم منظمات المجتمع المدني ونقابتي المحامين في بيروت وطرابلس لضمان تقديم الدعم القانوني لمن لا يستطيع تحمل الكلفة المالية.

المهمة الخامسة: تقديم منح فرعية لتعزيز سيادة القانون، وبناءً على تجربة أماديست تاغ، مُنِحت ثلاث جمعيات غير حكومية 25 ألف دولار لِكُلٍ منها كجُزءٍ من برنامج المنح الصغيرة.

المهمة السادسة: التخطيط الاستراتيجي للنظام القضائي. في 29 كانون الثاني ساعد المشروع وزارة العدل على اقامة معتكف لأعضاء السلطة القضائية نوُقِشَت فيه بنود الرواتب والأخلاقيات والضوابط الخاصة بالقضاة، تبعته حلقة ثانية في الثالث عشر من شباط أُصدرت بعدها مجموعة من التوصيات (التقرير النهائي ص19).

المهمة السابعة: اجراء الدراسات الخاصة بمعهد الدروس القضائية والمحكمة النموذجية، والتعاقد مع المكاتب الهندسية لوضع التصميمات (تمَّ دمجها مع المهمة الثامنة في وقتٍ لاحق).

المهمة الثامنة: تجديد معهد الدروس القضائية والمحكمة النموذجية.

عُمل في البداية على تطوير قدرات معهد الدروس القضائية على أربعة محاور: تدريب القضاة وتطوير المناهج المعتمدة، وضمان استمرارية تدريب القضاة الموجودين في الخدمة الفعلية من خلال خمس ورش أنجزت خلال فترة زمنية محددة، تجديد مكتبة المعهد والاتفاق مع دار صادر للمنشورات القانونية على تزويد المكتبة بالمراجع القانونية الناقصة، واستعان المشروع بالدكتورة شارلوت كرم من الجامعة الأميركية في بيروت، لوضع نماذج اختبارات نفسية تساعد المعهد في عملية انتقاء المرشحين المتقدمين لامتحانات الدخول.

لاحقًا تمَّ إنشاء موقع الكتروني خاص بمعهد الدروس القضائية، ولدى دخولنا إليه اكتشفنا ان تحديث الموقع توقف منذ نيسان 2011.

اللافت أنَّ تقييم هذه المهمة الوارد في التقرير النهائي (ص 5)، أوصى بإلغاء الامتحان الشفهي النفسي أو تعديله، بسبب سيطرة السياسة والطائفية على عملية اختيار المرشحين لمعهد الدروس القضائية.

في ربيع 2009، قدَّم المشروع المساعدة الاستشارية في صياغة قانون جديد لتعزيز شفافية واستقلال القضاء اللبناني، ومن ثم المساعدة على صياغة مدونة أخلاقية قضائية كاملة من 28 صفحة، تم الاستفادة منها لاحقًا لتدريب عدد من القضاة في 15 تشرين الثاني 2010.

لم يقتصر عمل المشروع على تجهيز وتدريب الكادر القضائي. ففي 2008، بدأ العمل لتدريب صحافيين على كتابة المنشورات والمقالات القانونية، من خلال الاستعانة بالصحافية رابعة الأحمر التي عملت في صحيفة «النهار» اللبنانية، ومحطة CNN العربية، إلا ان القيِّمين اكتشفوا لاحقًا أن التغطية الاعلامية للقضاء هي مسألة خلافية في لبنان:

«سرعان ما اكتشف المشروع أن التغطية الإعلامية للقضاء كانت قضية خلافية للغاية. عارض بعض القضاة العمل مع الصحافيين واستخدام أموال المشاريع لمثل هذه الغايات».

يُضاف إلى ذلك أن وزير العدل في تلك الفترة كان يعمل على وضع مشروع قانون من شأنه ان يسمح للقاضي بسجن أي صحافي لكتابته مقالًا لا يؤيد قرارًا قضائيًا (التقرير النهائي، ص8).

نظرًا لقلة منظمات المجتمع المدني التي تعمل في المجال القانوني في لبنان، صدرت توصيات من المشروع لدعم هذا النوع من الجمعيات، نظرًا لأهميتها في المساعدة على الأهداف التي يعمل من أجلها الـ NCSC، ففُتح باب التعاون مع نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس، لتحسين خدمات المساعدة القانونية التي تقدمها النقابات.

تكامل المشروع مع مختلف البنود التي تمت معالجتها والعمل عليها، من تطوير سياسات الاصلاح الاداري للمحاكم، وتحسين الإدارة وصولاً للحلول البديلة لفضِّ النزاعات. وقد أفرد المشروع مهمةً خاصة للتخطيط الاستراتيجي للنظام القضائي اللبناني، وعدلت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID هذه المهمة لتتحول الى خطةٍ طويلة الأمد، فأوفدت في 2009 ثلاثة خبراء إلى لبنان خلصوا إلى أن النظام القضائي اللبناني يعاني نقصًا كبيرًا في التمويل، ويظهر ذلك من خلال تدني رواتب القضاة، والصيانة السيئة للمحاكم، على الرغم من توفر بنية تحتية تعليمية جيدة.

في تشرين الأول 2009، التقى مدير الجمعية في لبنان فيليب لامارش والمستشار القانوني جو كرم، خلال أكثر من خمسةَ عشرَ يومًا، مروحةً واسعة من المسؤولين اللبنانيين، من ضمنهم وزير العدل آنذاك ابراهيم نجار والمدير العام للوزارة، بالإضافة الى نقيب المحامين السابق في بيروت، ورئيس مجلس شورى الدولة، وثلاثة وزراء عدل سابقين، وعدة أعضاء في البرلمان، وقضاة جنائيين ومدنيين من الدرجة الأولى في الدائرتين العدليتين في بيروت وجبل لبنان. كما التقوا بالمدير العام لوزارة المالية، سعياً وراء فهم ميزانية القطاع العام والعملية المالية، وكيف سيتم النظر إلى التخطيط الاستراتيجي في هذا السياق.

وخلص الخبراء إلى أن نقاط الضعف هي على النحو التالي: عدم الثقة في النظام القضائي، الافتقار إلى المعايير الواضحة في إقامة العدل؛ ونقص الموارد (البشرية والفنية والمالية) لتحقيق الكفاءة في النظام القضائي، وتحسين فاعلية القضاة في إصدار قراراتهم.

ووفقًا لتقرير الـ USAID، فقد أبدى بعض المسؤولين اللبنانيين قلقهم وارتباكهم من خطة التطوير الاستراتيجية المنوي العمل عليها من قبل الـNCSC، وردّوا ذلك القلق لافتقار الالمام بعمليات التخطيط الاستراتيجي، وأن الخطة الاستراتيجية الخاصة بالنظام القضائي اللبناني، سيتم وضعها من قبل المركز الوطني لمحاكم الولايات المتحدة الأميركية NCSC، وبالتالي سيتم النظر اليها على أنها خطة أميركية.

وقد شكا القيمون على المشروع من التضارب الحاصل بين المشاريع التي ينفذها الاتحاد الأوروبي، والـ UNDP، مع المشاريع الخاصة بالوكالة، ونصح بأن يبذل المسؤولون اللبنانيون جهدًا اكبر لتجنب ذلك ولضمان عدم تأثير ذلك على المهام المُراد تنفيذها.

البداية من 2007

بدأ العمل الفعلي على مكننة القضاء من خلال المخطط التوجيهي الذي أنجز في 2007 في عهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وتم انجاز المخطط بتمويل من الاتحاد الاوروبي، كما ورد في التقرير السنوي الصادر عن الحكومة في حزيران – تموز 2006، وكان ذلك ضمن بند تطوير التطبيقات المعلوماتية وصولاً للحكومة الالكترونية. وقدَّم الاتحاد الأوروبي التمويل بكلفةٍ إجمالية بلغت حوالي ثمانية ملايين يورو، ودُشِّنَ في تموز 2019 بحضور وزيرة التنمية الادارية آنذاك مي شدياق، وقد نُفِّذ المشروع بالتعاون الوثيق مع وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى واشرافهما.

تم إنشاء مركزين للبيانات والبيانات البديلة لتسريع العمل القضائي، وتخفيف تداول الملفات الورقية، وتأمين الربط الالكتروني بين المحاكم، مما يسهل عملية نقل الملفات ولا سيما خلال عمليات الطعن، وقد تضمن توحيد عدد كبير من نماذج الاجراءات القضائية، وتدريب حوالي 400 كاتب ورئيس قلم من محاكم بيروت والمتن وجونية، بالإضافة لتدريب رؤساء الأقلام وكتبة محاكم التمييز على استعمال النظام، ومباشرة العمل بالبرامج الممكننة في محكمة التمييز المدنية في أيلول 2019.

من يكفل استقلالية القضاء؟

تبنّى لبنان من ضمن المعاهدات الدولية المبادئ الأساسية الخاصة باستقلال القضاء، تلك التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في ميلانو- إيطاليا بين 26 آب و6 أيلول 1985. هذه المبادئ وُضِعت لمساعدة الدول لتحسين أنظمتها القضائية، وهي تعمل على ضمان وتعزيز استقلالية القضاء ضمن اطار البنود التالية:

استقلال القضاء، حرية التعبير، المؤهلات والاختيار والتدريب، شروط الخدمة ومدة الولاية، السرية المهنية والحصانة، الاجراءات التأديبية، التوقيف والفصل من الخدمة.

وطبقًا لأحكام مقدمة الدستور اللبناني والمادة 2 من أصول المحاكمات المدنية، فإنَّ الصدارة في تطبيق الأحكام هي للأحكام الدولية على القوانين اللبنانية، والمعاهدات التي صادق عليها لبنان تدخل حيِّز التنفيذ فور نشرها في الجريدة الرسمية.

وعليه يكون لبنان ملزمًا، وفق القوانين الداخلية والمعاهدات الدولية التي التزم بها، تأمين الاستقلالية التامة للقضاء اللبناني، مما يضمن نظامًا قضائيًا عادلًا ومنصِفًا وفعَّالًا، لبسط سيادة الدولة، وحماية المواطنين، وتكريس التوازن بين السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية.

عرف النظام القضائي منذ منتصف القرن العشرين عدة محاولات لتحسين أوضاعه وتحقيق استقلاليته. ففي دراسة تناولت «استقلال النظام القضائي اللبناني وحياده»، أعدّتها الجمعية الأوروبية – المتوسطية لحقوق الانسان، تم تقديم نبذة عن التحركات الجماعية للقضاة، وعن حجم ضغوطات السلطة التنفيذية التي مُورِست على الجسم القضائي.

ازدادت حدة هذه التدخلات مع تطور الازمات السياسية والامنية التي مرَّ بها البلد خلال أكثر من سبعين عاماً، وتفاقمت المشاكل الاقتصادية فانهارت قيمة العملة الوطنية، مما ترك الجسم القضائي والقضاة مكشوفين أمام التدخلات الخارجية والداخلية.

تقصير الدولة وعجز الموازنات والاتكال على الهبات، فتَح الباب لدخول المؤسسات الدولية والجمعيات التي عملت على سد الفراغ. ويفوق عدد الجمعيات التي تم الترخيص لها وفق أرقام وزارة الداخلية الـ 2000، وهي لا تُراقب بشكلٍ كافٍ من قبل وزارتي الداخلية والمالية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القوس

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى