متفرقات

الحياد.. فكرة شاردة أم تاريخ مرتبك

كتب الباحث في القضايا الفكريّة والتاريخيّة والتربويّة الدكتور حسين عبيد عن الحياد اللبناني وسأل أهو فكرة شاردة ام تاريخ مرتبك…

 

إذا ما عدنا إلى قيامة لبنان الكبير، في الأول من أيلول سنة 1920، على لسان المفوض السامي الجنرال غورو، مع إضافات لبعض المناطق المحيطة بأراضي المتصرفية، ليتخذ منها مرتكزًا، بناء لضرورات داخليّة خاصّة بغالبية سكانها، وداعميها من القوى الخارجيّة، للتمكين والسيطرة في ما بعد، وذلك بخلاف منطقي التاريخ والجغرافيا، ما دفع ببعض المؤرخين، إلى القول، إنّ قيام الكيان في لبنان، يعتبر بمثابة خطأ تاريخي.

بعد إعلان دولة لبنان الكبير، والتي استمرت كتسمية حتى 1926، وهذه الفترة كانت محكومة مباشرة من باريس عبر المفوض السامي الفرنسي، لتقوم معها الجمهورية اللبنانيّة، بولادة الدستور 1926، الذي كان للثورة السورية الكبرى (1925 – 1927) ارتداداتها العنيفة على الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، والتي دفعته، مع عوامل أخرى، مرغمًا لإقرار الدستور، بعد ثلاث سنوات من التسويف والمماطلة، مع التنويه أنّ هذا الدستور جاء صورة طبق الأصل عن الدستور الفرنسي، والمفوض السامي قادر على تعليقه وتعديله ساعة يشاء، باعتبار أن لبنان الكيان المستحدث، هو تحت الرعاية الفرنسية، فلا داع للبحث بأيّ كيفيّة أخرى، ودليله أنّه تم إنشاء مجلسين واحد للنواب وآخر للشيوخ، الذي ما إن أُطلقا حتى ألغي مجلس الشيوخ بعد سنة واحدة من قيامته، وتم ضمه إلى مجلس النواب. وبقي فيها الفرنسي قابضًا على لبنان بنظامه وسياساته الداخلية والخارجية حتى الاستقلال سنة 1943، حيث شهد فيها النفوذ الفرنسي تراجعًا حادًّا في السنوات الأربع الأخيرة، نتيجة سقوط فرنسا وخضوعها للاحتلال الألماني.

حتى مع الاستقلال الذي كان لبريطانيا الدور الأكبر في إنجازه، فهل يمكن الحديث هنا عن حياد، ولبنان في ما بعد الاستقلال خاضع إلى حدّ كبير للسياسة الفرنسيّة! وفي الأصل فكرة الحياد كانت بمنأى عن أي نقاش تحت حِراب الاحتلال.

كما يلفت إلى أنّ لبنان، ومذ أن أعلن عن قيامه هو إعلان إشكالي، تراوح في الأساس ما بين رغبة الإبقاء على المطالبين بالوحدة السوريّة أو العربيّة، وبين من كان متمسكًا بحكم السلطنة العثمانية، بدوافع عقدية (دولة الخلافة)، وبين من كان يدعو الحماية الفرنسية (الاحتلال الفرنسي)، لضمان بقائه، هنا حصلت عملية استقواء لفصل لبنان عن محيطه الطبيعي والعربي، وبقي هذا النزاع  والصراع متواصلًا حتى سنة 1943.

واللّافت أنّ منع ذوبان اللبنانيين المدّعاة في الوحدة العربيّة الإسلاميّة ومنحهم نظامهم الديمقراطي البرلماني والعيش المشترك، إنّما هو في الأساس لمنع ذوبان مسيحيي جبل لبنان، لا سيما الموارنة منهم، في الوحدة السورية أو العربية أو الإسلامية، التي كانت هي مطلب الغالبيّة من المسلمين، ودعاة الوحدة من المسيحيين، لا سيما الوحدة السوريّة منها.

أمّا النقطة الثانية المتعلقة بالاستقلال فقد جاءت نتيجة توافق بين البريطاني والفرنسي، بل أرغم فيها الفرنسي بفعل عوامل خارجيّة منها أكثر منها داخليّة، وهو في الواقع كان اتفاقًا بين شخصين (بشارة الخوري – رياض الصلح)، اتفقا على ضرورة تخلي المسلمين عن الوحدة مع سوريا والعرب، في مقابل تخلي المسيحيين عن الحماية الفرنسيّة، وهنا وقع المحظور بين نافيين سلبيين، قَاطِعَين، مع ترجيح للاعتبار الفرنكفوني، والانخراط في منظومته، والتي شهدت هيمنة مارونيّة على المشهد السياسي في ما بعد، وفي المقابل، اعتبار شكلي للبعد العربي، في أن لبنان “ذو وجه عربي”، في ظل شعور بالغبن والإجحاف لباقي الطوائف.

وفي لمحة سريعة، وحتى العام 1958، كان لبنان، كما المنطقة العربية في غالبيتها تقبع تحت الاحتلالين الفرنسي والإنكليزي، وعليه لا سبيل لقيام المحاور والصراعات في ما بينها، كما أنّ السلطات السياسية فيها كانت متشابهة، في ظل انكفاء فرنسي بريطاني، تصدرت الولايات المتحدة المشهد، ولكن ما إن برزت سياسات المحاور، ما بين حلف بغداد المدعوم أميركيّا ودعاة الوحدة بزعامة عبد الناصر، حتى انجرف لبنان للالتحاق بحلف بغداد، وتبين هشاشة النظام العربي برمته، ومن ضمنه لبنان.

وبقيت هذه الهيمنة قائمة حتى اندلاع شرارة الحرب الأهليّة في العام 1975، والتي استمرت حتى العام 1990، وتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي، وقد توجت الحرب الأهلية باتفاق الطائف 1989، الذي  حسم في نصوصه “لبنان عربي الهوية والانتماء” ولكن في الواقع بقيت النصوص جامدةٌ حروفها، دون أن تتمكن من الدخول في النفوس، وعليه يعتبر هذا الدستور، بتعديلاته في الطائف، بعد أن قلّص دور المارونيّة السياسية، مولدًا لأزمات جديدة، وممهدًا لصعود طوائفيّات أخرى.

ومنذ تلك الفترة، وحتى يومنا هذا نجد الصراعات على أشدها بين عناصر ومكونات الداخل، ومن منطلقات مختلفة، وعلى مختلف المستويات، موسومة بتدخلات الخارج بمحاورها المختلفة.

وفي المقلب الآخر، نظرة مجتزأة، وأحيانًا أحاديّة، لقراءة تاريخ لبنان، من قبل البعض، فيرونه بعين واحدة، ويتم فيها إلقاء تبعات كل ما يحصل على أطراف محليّة وإقليميّة، واعتبارها هي السبب الرئيس في ما آلت إليه المصائر، مع تغييب واضح، ربّما عن قصد أو غير قصد، للعامل الأشد قوّة في المعادلات، ألا وهو الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين منذ إنشائه العام 1948، وربما من قبل، وحتى يومنا هذا، مع تحريكه لأذرعه في كل الاتجاهات، عدا عن خوضه حروبّا على مختلف الجبهات، كلّما سمحت له الفرصة، مع تناسي طبيعته العدوانيّة المستهدفة للمنطقة برمتها، والتي يعمل على تطويعها والنيل من هويتها ومستقبلها.

كما أنّ لبنان خلال المائة عام المنصرمة نتيجة التدخلات الأجنبيّة، وتركيبته الداخليّة، وطبيعة نظامه، ومنذ لحظة ولادته حتى يومنا هذا لم يعرف طعم الحياد من قريب أو بعيد، حتى لو سلمنا بالاستقلال الذي معناه أن ينتج استقرارًا، لم نجد له أثرًا، إنّما هو في حال من التوترات المتواصلة التي شهدها هذا الكيان طيلة المائة عام المُتَصَرِمَة.

وللأسف فإنّ الدعوة إلى “عقد الاستقرار”، والبناء عليه، وجعله ثابتة في ذكرى المائويّة للبنان الكبير، بعد الوقوف على محطات مفصليّة من قبيل الإعلان عن قيام دولة لبنان الكبير، وإعلان الاستقلال ستة 1943، هي محطات للأسف، وكما تبين لم تشكل ركائز لحماية الكيان، و”عقد الاستقرار” ببناءاته التراكميّة اللّاوقعية، لن يكون مصيره بأفضل من سابقيه.

فهل بهكذا طروحات يتحقق الحياد، إن وجد له مرتكزات، في ظل انقسام أفقي وعامودي بين اللبنانيين، ولبنان غارق في أزمات على مختلف المستويات والصعد؟ أم يستدعي الأمر مطارحات ومعالجات من نوع آخر، لتضافر الجهود وتماسك الطاقات للقيام بعملية إنقاذيّة للبلد؟

وعليه بعد، تتبع مسار دولة لبنان الكبير منذ قيامته، لم يُلمس فيه روحًا للحياد، أو حتى ورود مثل هذه الكلمة في المداميك الأولى لبنائه، وما ورد من عبارات كـ “النأي بالنفس” أو “تحييد لبنان” عن الصراعات والنزاعات، إنّما جاء متأخرًا، وربّما في العقد الأخير من المائويّة المدّعاة، ليبنى على نولها غزل الحياد… ككلمة شاردة، أو طائرة في الهواء تحلق في واقع مأزوم، وتاريخ مرتبك.

وهكذا نخلص إلى نتيجة مفادها، أنّ طرح موضوع الحياد فكرة ولدت ميتة، لم تتوفر لها الشروط الموضوعيّة، ولا تتوفر لها البيئة الخصبة لكي تترعرع وتنمو فيها، بغض النظر عن مطلقها. باعتبار أنّ أيّ فكرة يتم طرحها دون نضوجها، وتوفير مقومات نموها، واستمراريتها، فإنّها قد ترتد عكسيًّا على المشهد، وبشكل مأساويّ في المستقبل.

ومن منطلق الحرص على هذا اللّبنان وإذا ما أردنا له القيامة من جديد، بمكوناته وعناصره كافّة، ينبغي، وبعيدًا عن كلّ ضروب الأنانية والشخصانيّة، وتسليم القياد للنكد السياسي، والانتقام، وإخضاع من يخالف الرأي أو القناعة.

فالمعالجة الجادّة، تقتضي الانطلاق من نظرة موضوعيّة تأخذ بعين الاعتبار كل العوامل والمسببات، ودراسة الظروف التي يتم التحرك فيها، وقراءة المرحلة بوعي وحكمة بكّل حساسياتها ودقتها، والتقدم بطروحات واقعيّة، محورها الحفاظ على الوطن.

فهل نمتلك الجرأة في الاعتراف بما ارتكب من أخطاء، وما شَابَها من ممارسات خاطئة، لنصحح الخلل، ونرسم مسار البوصلة كما يجب؟ أم سنبقى أسرى غرائزيتنا وعصابياتنا؟

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى