ابن وطني: كفى استعداء، تعال لنتكامل
كتب الباحث في القضايا التربوية والتاريخية الدكتور حسين عبيد عن هوية لبنان وثقافته ربطا بالمستجدات السياسية:
في حمأة الصراع القائم في لبنان، بارتباطاته الإقليمية والدوليّة، في ظل الواقع المتشظي على مختلف الأصعدة والاتجاهات، وحيث تضج الساحة بالشعارات الرنانة الطنانة، تنهال من وسائل إعلام أقل ما يقال فيها، أنّها فقدت أدنى المعايير الوطنيّة والأخلاقيّة. المتمترسُ فيها قابع تحت قوس المُقدس يتظلل بطائفيّة رعناء، يُشنّف آذانه لسماع كلمة من خصمه (عدوه) ليبني عل أنقاضها دعائم هيكل مزعوم، يتلطى تحت سقفه، ليطلق نيران حقده الأعمى على كل من يحسب أنّه يخالفه الرأي أو يحتمل أنه سيخالفه القول، اشتباك بألوان زاهية في الظاهر، ولكنه محشو بكل أنواع السموم القاتلة.
الكل يدلو بدلوه، في مشارق الأرض ومغاربها، هذا يتهم ذاك، وذاك يتهم هذا، بعض يقرع طبول الحرب، وبعض يوظف القوّة الناعمة، التي يمتلكها، في حربه ضد ابن وطنه، أو ابن دينه، أو ابن قومه، ينال من قيمه ويعمل على تهشيمها وتمزيقها، يشوه الحقائق ويزيّفها، ينشر الأباطيل ويزينها، حتى أصبحت تخال أنّك في معترك من الضجيج والترهات، لا حصر لها. فينشر سبًّا هنا، وشتمًا هناك، ويحسب نفسه يحقق نصرًا موهومًا هنالك، ويبرر لنفسه التهجم على قيم من يخالفه الرأي أو المعتقد، تحت مسميّات شتى: “ثقافة الحياة”، “رفض الخنوع والخضوع”، “التحرر”، “الحياد”، “تطبيق القرارات الدوليّة”، وآخرها الاحتلال، وفيها ينشر شظايا كلماته، ويساوي بين العدو والشقيق، إن لم نقل انحيازًا للعدو، ويشن حربًا ضروسًا على أخيه في الوطن…، مصحوبّا ذلك بخليط عجيب غريب في المفاهيم المشوهة والقيم الملتبسة.
لكن ماذا نفعل إزاء المستجدات مع تداخل عوامل إقليميّة ودوليّة بالعوامل الداخلية، ومعها بدأت المنطقة تشهد تحولات مهمة تجسّدت في اغتصاب فلسطين سنة 1948، وأضحى معها الخطر داهمًا على لبنان ومحيطه، وهنا يطرح موضوع التعامل مع هذا العدو المتربص بنا جميعًا الذي يعمل ليل نهار لقتل لبنان أو على الأقل لإفقاده دوره، مع ما تلاها من أحداث داخليّة، أدت إلى اندلاع شرارة الحرب الأهلية عام 1975 إلا تشطيًّا وانشطارًا وإن تمكن اتفاق الطائف عام 1989 الذي جاء نتيجة تسوية دوليّة وإقليميّة، من إيقاف الحرب، وحسم هوية لبنان عربي الانتماء في النصوص دون النفوس، ولكنّه لم يتمكن من إنهاء التجاذبات والنزاعات بين اللبنانيين بأشكالها المتنوعة، ولم يزل التنازع قائمًا بأوجه مختلفة حتّى يومنا هذا.
لم تقتصر النّزاعات حول الهويّة السياسيّة، فحسب، بل شملت الهويّة الثقافيّة بما تحمله من موروثات، وقد تمّ توظيفها في الصراع الطائفي – السياسي، ما أدّى إلى حدوث انشطار مجتمعي ثقافي – تربوي ذي اتجاهات أيديولوجيّة – سياسيّة متضاربة، وكانت اللغة العربية من أولى الجدليات التي دار حولها الصراع، حيث جرى العمل، من قبل البعض، على تحويرها واعتمادها كلهجة عامية، ولم تخل الساحة مؤخرًا من ترهات ثقافة ما “بيشبهني ما بيشبه ثقافتي”.
ما يسمى خطابًا هو أشبه بحفلة جنون هستيريّة، تخشى من نفسها على نفسها، تطالعك الشاشات مزهوة بإعلاميّات وإعلاميين مع زبانيتهم يحسبون أنفسهم ملائكة أو طواوييس أو حمائم سلام ارسلهم ربّ العزة ليكونوا منذرين ومبشرين بالأبوات والسماوات وكل الرسالات… يلعنون الظلام الذي رسموه بأيديهم، وهم أنفسهم من كانوا يتربعون على عرش الموائد في صالات المآدب، في وطن اكتنزوا الذهب والفضّة، ورَمّوا منها حتى انفلتت من عقالهم أحزمة ناسفة بكل أنواع الموبقات. فهوى الوطن معهم إلى حضيض الرذيلة.
وفي المقابل ألبسوا أنفسهم ثوب النزاهة، وهاجموا الفساد والمفسدين، ورفعوا رايات الإصلاح، مع أقران لهم من منظمات وجمعيات، واصطنعوا أعداء في الداخل، ونفثوا سموم حقدهم في كور الطائفية والمذهبية، وأسقطوا في قواميسهم كل المحرمات، وظفوا منابر إعلامية ومواقع ألكترونية ووسائل تعبيريّة، مختلفة ومتعددة، بإعلام هابط مضامينه منحطة، وأقلام وظّفت في منابر ومواقع ووسائل تعبير مختلفة، لتنال من خصومها بأبشع الأساليب. لا سيما في أيامنا هذه حيث حملات الانتخابية مسعورة، تخاض تحت عنوان استعادة السيادة وإثبات الهويّة، تحرير وطن من الاحتلال، فكيف تستعاد السيادة مع من رهن نفسه لمشاريع مشبوهة، كما أنّ بلدكم هذا وهو بلد لم يعرف منذ نشأته طعمها، ولم يتلذذ مذاقها، يل ومنذ نشأته في اليوم الأول وحتى يومنا هذا يعيش بنفس خارجي مصطنع، تشهد على صراع المحاور بأشكالها المتنوعة، أما الهوية فلبنان يعيش منذ قيامه أزمة هوية سياسيّة وثقافية، بين مختلف مكوناته، جاء الميثاق الوطني تعبيرًا واضحًا عن حالة الانقسام في المجتمع اللّبناني، وعن النسيج الطائفي فيه.
إزاء ما تقدم، نتساءل، ما هي الأمور التي استجدت، حتى حصل كل هذا الصخب، لم هذا التعامل برعونة وإلصاق مصائب الكون كلّها به …. فلخدمة من؟ ولمصلحة من، تطلق هذه الأراجيف…؟
وإذا ما تبادلت الاتهامات عينها، فما النتيجة؟
وبناء عليه، هي دعوة صادقة للذين يُغالون في غيّهم العودة إلى رحاب العقل، واتخاذ العقلنة نهجًا ومسارًا، ففي الصخب العصبيات والأهواء والأمزجة والغرائزيّات، لن تكون إلّا صدى لترددات الأنا المتشظيّة… وما إن ينقشع الغبار ويزول حتى ترى أنّ ما تقوم به، ليس سوى أضغاث أحلام تراءت لك، حسبتها ممتعة ربّما، ولكن اليقظة تكشف زيف ذلك الحلم المخادع… لا تراوغ، كن صادقًا في طروحاتك، وفي المطالبة بقضاياك…
من تستهدفه، هو ابن هذه الأرض جذوره ممتدة في أعماق أرضه، كدح فيها، وتعب، حتى لامس شغب الشقاء في تجاربه، ما أمده بطاقة لا تستطيع أن تحدد مداها، رحابة صدر، وقلب منقتح، وتسامح دون حدود، ولكن حذار من غضبه، فكما أنّ طاقة الإيجاب غير متناهية، فالغضب أبعد مدًى…
بصراحة أقولها ماذا عساك فاعل بابن حقيقي لهذه الأرض متجذر فيها، فلا يمكن مقايسته بحفنة من الغرباء، أو وافدين إليه وإن كانوا من الأشقاء… ولذا فإنّ أيّ قوّة مهما بلغت من الشدّة، وإن كانت “العُظمى” فلن تستطيع اقتلاعه، ومَثَله كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، بل من عاداها سيكون مصيره الزوال والفناء…
وعليه حتى لا نتيه عن البوصلة، إن كنت مقتنعًا أننا أبناء وطن واحد، وإن اختلفت في ما بيننا التعبيرات، تعال لنتكامل، وللنزع الأحقاد التاريخيّة والماضيّة والحاضرة من نفوسنا، ونخرج من دوائر ذواتنا إلى رحاب التكامل، لنولّد بتكاملنا طاقة الحياة والبناء لوطن نستحقه عن جدارة ويستحقنا بكفاءة.