ماذا بعد “عودة” البيطار؟
فوضى عارمة أغرقت «العدلية» في مشهد قلّ نظيره، اللهمّ إلّا في أعتى الديكتاتوريات، بعيداً عن أيّ منطق، ما أوصل الجهات القضائية إلى التصادم وفقدان البوصلة جراء تسارع الأحداث وغرابتها، في شكل يسير معه الجسم القضائي نحو المجهول. لم يكن ذلك فقط نتيجة لانقلاب المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار، وقفزه فوق كل السلطات للعودة إلى الملف، بل هو نتيجة طبيعية للانحراف القضائي والتلاعب بالقوانين والمواد الدستورية واستغلال الثغرات، ما ضرب أيّ أمل في الوصول إلى حقيقة ما جرى وإلى المسؤولين الحقيقيين عن هذه الجريمة. ما يحصل في «العدلية»، باختصار، أشبه بحفلة جنون وضياع، باستثناء أمر واحد شديد الوضوح: مشروع تدمير القضاء ووضعه تحت الوصاية الدولية دخل مرحلة التنفيذ.
فقد توالت أمس تداعيات الاجتهاد الذي استند إليه البيطار للنفاذ مجدداً إلى ملف التحقيقات، و«فات القضاء ببعضه». كل جهة تتصرف وفق ما تعتبره من صلاحياتها أو مسموحاً لها. بداية، حدّد البيطار مواعيد جلسات لاستجواب المدعى عليهم. جاء الردّ الأوّلي عبر النيابة العامة التمييزية التي رفضت تنفيذ التبليغات وأصرّت على أنّ البيطار مكفوف اليد. ورغم عدم إرسال التبليغات، نفّذ البيطار تبليغات استجواب كل من: رئيس الحكومة السابق حسان دياب، والوزراء السابقين: غازي زعيتر ونهاد المشنوق لصقاً على الحائط المقابل لمكتبه في قصر العدل، معتبراً أنه يتوجّب حينها على الأجهزة الأمنية إلصاق التبليغات أيضاً على أبواب منازل المدّعى عليهم. فأتى الرد الثاني بمنع الأجهزة الأمنية من تنفيذ أيّ قرار قضائي صادر عن المحقق العدلي. وقد عمّمت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي على كل الأجهزة الأمنية عدم تنفيذ أي قرار أو إشارة للقاضي البيطار بطلب من المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي عاد عن تنحّيه عن الملف، ورفض إطلاق الموقوفين وتبليغ المدّعى عليهم للمثول أمام المحقق العدلي، وأرسل إلى الأخير «المكفوفة يده» كتاباً استهلّه بالآية القرآنية «إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ»، مضيفاً إن «يدكم مكفوفة بحكم القانون، ولم يصدر لغايته أيّ قرار بقبول أو برفض ردّكم أو نقل أو عدم نقل الدعوى من أمامكم». وكشفَ في كلام آخر أنه «يبدو أن التنحّي ليس وارداً في القانون لدى البيطار، لذا سأعتبر نفسي أيضاً غير متنحٍّ في قضية المرفأ، وسأشارك في جلسات مجلس القضاء الأعلى، شريطة أن لا يكون ملف المرفأ بنداً وحيداً في الجلسة».
هذا الجو انعكس تخبّطاً داخل «العدلية»، وبدا واضحاً الاستياء الكبير لدى غالبية القضاة الذين اعتبروا ما يقوم به البيطار «انتهاكاً للقانون» سيفتح باباً لأيّ قاضٍ في ما بعد بالاجتهاد لنفسه واتخاذ القرارات التي يريدها. في غضون ذلك، عُقد اجتماع بين وزير العدل هنري خوري ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود (كانَ مقرراً منذ عشرة أيام)، دافع خلاله عبود عن البيطار، وأبدى استياءه من إرسال الوزير اجتهاد المحقق العدلي الى المجلس الأعلى للقضاء لطلب إبداء رأيه.
في سياق آخر، غلبت المفاجأة من خطوة البيطار على المدّعى عليهم، وخصوصاً لجهة تحديد مواعيد جلسات الاستجواب. وتفاوتت المواقف بين قلّة لا تتجاوز الاثنين اتخذا قرارهما بالمثول في حال تبلّغا الادعاء رسمياً، وغالبية تترك الأمور لظروفها حتى بعد التبليغ وفق الأصول. ومع الإجماع على «احترام القانون والبقاء تحت سقفه»، إلا أنه «لا شيء جدير بعد بأخذه على محمل الجدّ في ادّعاء البيطار» بحسب أحدهم. فيما تساءل آخرون «لماذا لم يواجهنا القاضي المستيقظ فجأة من سباته كمستمع إلينا في المرحلة الماضية قبل اتخاذ قراره بالادعاء». «من الآن حتى شباط حياة أو موت»، بهذه العبارة، يخفّف أحد المدّعى عليهم من أهمية الهمروجة. بينما يفضّل آخرون عدم الاكتراث والتعليق، لأن «الحقيقة ستظهر في نهاية المطاف». وتنقل المصادر أن صدمة المدعى عليهم لم تنحصر بعودة البيطار ولا بأسلوب الادعاء وتحديد جلسات الاستجواب عبر الإعلام، بل من «ورود أسماء بعض المسؤولين والموظفين الذين لا دور ولا علاقة لهم بكل هذه القضية».
الاخبار