متفرقات

ايران والحرب الثالثة الاميركية- الاوروبية عليها؟

بقلم وزير الخارجية الاسبق د. عدنان منصور

لم تتعرض دولة في العالم مثل ما تعرضت وتتعرض له إيران منذ قيام الجمهورية فيها عام 1979 وحتى اليوم،من حروب متواصلة عليها ، اخذت أبعادا وأشكالا مختلفة سياسية،
وعسكرية، واقتصادية،ومالية، وإعلامية، وثقافية. حروب كانت خلاقة للقتل، والحصار،
والفوضى ،والعنف،
والإرهاب المنظم .
من يتتبع مسيرة الثورة الايرانية منذ ارساء نظام الجمهورية الاسلامية، وتحديد هويتها، ومبادئها، ونهجها،أدركت الولايات المتحدة ومعها الغرب، ان الثورة الايرانية قلبت رأسا على عقب ،كل السياسات التي كان يسير عليها نظام الشاه البائد محمد رضا بهلوي،
لتضع حدا نهائيا للهيمنة الغربية ،كانت واشنطن محورها .
ليس من السهولة بمكان أن تتقبل أميركا واوروبا
نظاما ثوريا رافضا لسياساتها وهيمتها ونفوذها واستغلالها، يطيح بالمعادلات الجيو-سياسية والإقتصادية والاستراتيجية التي رسمتها واشنطن لمنطقة غربي ٱسيا، لا سيما في ايران. لذلك، كان على واشنطن ان تحاكي التطورات باهتمام وحذر شديدين، وتعمل مع حلفائها في اوروبا، وبالذات مع بريطانيا وفرنسا والمانيا، وايضا مع دول عربية للتحضير لحرب بالواسطة،
يفرضها الرئيس العراقي صدام حسين على إيران ، وذلك ،بعد ان فشلت اميركا في احتواء الثورة الايرانية والاطاحة بها، وعجزت عن إعادة طهران الى بيت الطاعة الاميركي.
انها الحرب العسكرية الاولى على إيران ونظامها، بعد اشهر من انتصار الثورة، حيث رأت واشنطن، انها الفرصة المؤاتية للانقضاض على الثورة،واعادة ايران مجددا الى سيرتها الاولى .فكانت حرب الثماني سنوات، التي أرادتها الولايات المتحدة ان تكون حربا مفصلية، تنهي النظام الايراني برمته وتقضي عليه.
بعد أن شن صدام حسين هجومه الواسع على إيران في 22 ايلول 1980، وقفت واشنطن ومعها بريطانيا وفرنسا والمانيا بكل قوة الى جانبه، وقامت بتزويد جيشه بأحدث انواع الاسلحة، والطائرات المقاتلة المتطورة، والمواد الكيمائية، بالإضافة الى المعلومات الاستخبارية التي زودتها أميركا لعراق صدام ، عن الجيش الايراني وتحركاته واسلحته، وقدراته الجوية .
كانت طائرات الاواكس، والاقمار الصناعية، تقوم برصد تحركات القوات الايرانية، ومسح مواقعها الاستراتيجية الحساسة، والتنصت على وسائل الاتصالات، ونقل المعلومات عن اهداف إيرانية كانت تصورها الاقمار الصناعية بدقة عالية، وترصد تحركات الجيش الايراني وٱلياته ، حيث يعترف الفريق أول وفيق السامرائي نائب
مدير مديرية الاستخبارات العسكرية العامة العراقية، ليقول عن الاميركيين:” لا أعتقد انهم خدموا دولة بالمعلومات كما خدمونا، وحتى بالمقارنة مع ما قدموه لاسرائيل! ”
( وفيق السامرائي، حطام البوابة الشرقية-ص.111 تموز ,1997).
أثناء الحرب المفروضة على ايران،بلغ عدد الشركات الاجنبية التي زودت قوات صدام حسين بمعدات وتجهيزات غير تقليدية 207 شركات، تنتمي الى 21 بلدا، فيما استحوزت سبع دول
على الحصة الكبيرة البالغة 178 شركة توزعت على الشكل التالي: ألمانيا 86 شركة،اميركا 18،النمسا 17، فرنسا16،بريطانيا 18،ايطاليا 12،
سويسرا 11.وهذه الشركات متورطة بتسليم صدام حسين صواريخ وأسلحة كيمائية، وأجهزة عسكرية ذات تكنولوجيا متقدمة.*(Pierre Salinger، وEric Laurent، حرب الخليج شباط 1991ص855).
رغم كل الدعم الهائل الذي وفرته أميركا وحلفاؤها، لم تستطع تحقيق أهدافها في اسقاط النظام الايراني. فما كان عليها الا ان تلجأ لاحقا الى الحرب الثانية الإقتصادية والمالية،من خلال فرض العقوبات على ايران، عل هذا النوع من الحرب، يستطيع تحقيق ما عجزت عنه الحرب العسكرية الاولى.
لقد فرضت واشنطن وحلفاؤها اقسى واشرس انواع العقوبات الإقتصادية والمالية والطاقويةوالتجارية اعتبار من عام 1980، مرورا بقانون دوماتو عام 1996، والعقوبات الأممية اللاحقة 2006 و 2007،
و2008، و2010، حيث كانت واشنطن المحرضة عليها.
رغم الحصار والعقوبات الغربية الشرسة ،فقد تحمل الشعب الايراني قساوتها وتداعياتها
بكل صبر وتحد، إذ فشلت واشنطن في المراهنة على الشعب الايراني كي يثور على النظام نتيجة تداعيات العقوبات الصارمة . إلا أن هذه العقوبات وإن كانت مريرة ،
فقد تحملها الشعب الايراني بعنفوان، وتحد وصمود قل مثيله،ايمانا منه بثورته، وهو الخبير بسياسات القهر لواشنطن وما فعلته بحقه في زمن الشاه، وما تبيته له من مؤامرات للانقضاض على ثورته،وجر إيران الى دائرة هيمنتها من جديد.
بعد 44 عاما، أيقنت واشنطن وحلفاؤها ، ان العقوبات الإقتصادية والمالية،
والتجارية،والحصار الشامل لم يمنع إيران وشعبها من الصمود،وتحقيق الانجازات تلو الانجازات في مختلف الميادين العلمية، والصناعية والعسكرية،
والتكنولوجية، والفضائية، والمعرفية، والطبية، وأن الحصار الإقتصادي قد فشل في اسقاط النظام ، وأن الحرب الثانية هذه، لم ولن تحقق مبتغى وأهداف اميركا وحلفاؤها في هذا الشأن. بعد الحرب العسكرية الاولى المفروضة وصمود ايران،،وفشل الحرب الإقتصادية الثانية ضدها ، توجهت واشنطن وحلفاؤها، الى خوض الحرب الثالثة ،بنهج وأسلوب جديدين، من خلال أوسع
واقذر حرب إعلامية واستخبارية عالمية مركزة، واسعة النطاق ضدها.هجوم علني لم يسبق له مثيل،حيث جيشت اميركا ودول غربية عملاءها، وجواسيسها، ومرتزقتها في الداخل والخارج، تدفعهم الى التمرد والفوضى ، وارتكاب جرائم القتل ،وتنفيذ عمليات ارهابية على أيدي مجموعات مدربة تلقت الدعم الكامل منها ،ماليا، وتسليحيا،وإعلاميا، ولوجستيا واستخباريا.
لقد توهم الغرب، ان ما جرى ويجري في ايران منذ ايلول2022، هو بداية إنهيار الدولة والثورة والنظام. فالتصريحات الوقحة، والتعليقات العلنية التي صدرت عن مسؤولين، وسياسيين، ومراقبين، ومتتبعين للشأن الايراني في الغرب، جاءت تنفث سمومها وتقول ،أن الاحداث التي تجري في ايران، أشبه بالتي جرت قبل سقوط الشاه بأشهر، جازمين ان النظام الايراني يلفظ أنفاسه الأخيرة!
مرة أخرى سقطت الحرب الاميركية-الاوروبية الثالثة على ايران، وسقط معها رهان أميركا وحلفاؤها،
وعملاؤها،ومرتزقتها، وجواسيسها في الاطاحة بالنظام.
ايران التي امتصت الى حد بعيد ٱثار هذه الحرب ،تنطلق في ملاحقة المتٱمرين عليها، واجتثاث اوكارهم، والاقتصاص منهم.
لقد عولت أميركا واوروبا على الداخل الايراني، لاشعال الفوضى المحبكة بدقة عالية ،والتي استعدت لها مستغلة ظروفا اجتماعية، واقتصادية، ومعيشية صعبة، جراء العقوبات والحصار المفروض على ايران.
فبعد الذي جرى ويجري من احداث، لا بد لايران بعد اليوم، من إعادة النظر في حساباتها،
وإجراء نقد ذاتي، وان تجدد ثورتها، وتستوعب متغيرات العصر، وتأخذ بالاعتبار تطلعات الجيل الثاني للثورة لتفويت الفرصة على اعدائها. ولنا في ذلك تجربة في النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي الذي سقط، والنظام الشيوعي في الصين، الذي استمر، وجدد نفسه منذ عام 1978 ، بعد الإصلاحات الواسعة التي قام بها الزعيم دين سياو بينغ ، لتستمر حركة التغيير والنهضة العظيمة مع جيانغ زيمين، وصولا الى شي جين بينغ، لتصبح الصين بعد ذلك دولة عملاقة ،
عصية على اي تهديد او حصار، او استهداف لها.
إيران التي صمدت على مدى اربعة عقود،
وانتصرت على أشرس الحروب الثلاث، قادرة على تجديد ثورتها في مختلف المجالات، والاخذ بالاعتبار تطلعات ومطالب جيل الشباب،
واستيعاب المتغيرات والتحولات في العالم ،مع الحفاظ على هويتها ومبادئها . فهي تستطيع أن تجدد ثورتها في الداخل،وتحصن نفسها، وتفوت الفرصة على أعدائها،وهي القادرة على مواجهة أي حرب تشن عليها مستقبلا، اكانت حربا رابعة أو
خامسة ،لا سيما وأن واشنطن ودول الاستعمار القديم ، والهيمنة الجديدة،لن تتوقف عن حياكة المؤامرات ضدها.
بتجديد الثورة من الداخل، يقوى الشعب، ويتعزز النظام، وتحصن الجمهورية، وتستمر الثورة!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى