التاريخ لا يسير وفق المنطق وإنما وفق موازين القوى
بقلم الكاتب السياسي ناجي صفا
من قال أن التاريخ يسير وفق المنطق أو ان ثمة موضوعية في تدوين وقائع التاريخ؟
لطالما كتب التاريخ المنتصرون. صاغوه بما يتلاءم مع انتصارهم ومصالحهم ووفقا لموازين القوى التي أنتجوها. أخفوا أمورا كثيرة وأظهروا أخرى تكرس الإنتصار. لم يكتب التاريخ يوما وفق منطق الامور، كان غالبا ما يتعرض للعبث والتزييف وفقا لموازين القوى. فكما في السياسة تلعب البروباغندا دورها، كذلك في التاريخ قلة قليلة من المؤرخين تسنى لهم كتابة التاريخ بشيء من الموضوعية.
عندما سقط الإتحاد السوفياتي ذهب كثيرون الى ان الصراع الدولي انتهى، وانه أختتم لصالح الولايات المتحدة، وان عصر صراع الأيديولوجيات قد انتهى الى غير رجعة، وان تاريخا جديدا بعصر عالمي جديد سوف يكتب. عبّر عن ذلك جورج بوش الأب ، كما تنبأ بذلك فرنسيس فوكوياما “نهاية التاريخ” ، وحسم بأن العصر القادم هو العصر الاميركي، لكن سرعان ما تراجع عن نظريته تلك عندما بدأ التاريخ يوجه له الصفعات. كان آخرها في افغانستان واوكرانيا. وذهب آخر هو صمويل هانتنغتون في اعقاب سقوط الإتحاد السوفياتي الى نظرية صراع الحضارات، مؤذنا بانتهاء عصر صراع الأيدولوجيات. ها هي الصين تقتحم العالم مكرسة نفسها على حدود القطب الاول، وها هي اميركا اللاتينية تسترد عافيتها كل يوم بشكل مضطرد.
يوم أعلن فوكوياما وهانتنغتون نهاية التاريخ وصراع الحضارات رد عليهم قادة في جهاز الأستخبارات الروسية (ال كي. جي . بي ) الذي بقي متماسكا رغم انهيار القلعة بأن كل ما يحصل هو امر مؤقت ولن يدوم، وبأن جهازا عملاقا مثل (ال كي . جي . بي ) يمتلك الكوادر والإمكانات “لن يترك الحبل على غاربه وصولا للإنهيار الكبير ” ، فلا بد له من ان يستولد من رحمه منقذا وقادرا على لجم الإنهيار” ، ( الاخبار في ٢١/ ١٢ / ٢٠٢١).
هذا ما حصل فعلا. كم كانت هذه القراءة صحيحة ومصوبة للتاريخ! ألم يكن ذلك تأسيسا لتاريخ جديد على عكس ما توقعه فوكوياما وهانتغتون ونعيشه الآن؟!
سيكتب التاريخ يوما ان الولايات المتحدة ونظامها الأحادي الذي حلمت به بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وفرضته لثلاثة عقود قد سقط، بعدما ثبت انه عاجز عن إدارة الصراعات الدولية، وعاجز عن إيقاف حركة التاريخ وعن التحكم بدفته.
أوليست محادثات فيينا تعاني اليوم من عدم القدرة على فرض الشروط؟ وتعاني مما سبق ان توجست به هيلاري كلينتون من ان الصواريخ البالستية الإيرانية قلبت المعادلات في الشرق الاوسط رأسا على عقب؟ من كان يتوقع ان ايران ستفاوض من موقع القوة وتفرض ايقاعها، وانها هي من يحدد نهاية جولات المحادثات وتواريخها؟ كم لعب المؤرخون على هذه التوازنات وما زالوا يغيبون الحقائق حتى اللحظة ويحاولون العبث بالامن الإيراني لإستدراج التنازلات.
من يكتب التاريخ الآن؟ وما هي القاعدة التي تحكمه: المنطق ام موازين القوى الناشئة التي ستعيد صياغة التاريخ صياغة موضوعية انطلاقا من الواقع لا من البروباغندا؟