الاستقلال صناعة مَنْ؟ وهواجس الديمومة…
بقلم الباحث في القضايا الفكريّة والتاريخيّة والتربويّة الدكتور حسين عبيد
الثاني والعشرون من تشرين الثاني، 1943، تاريخ فاصل في لبنان، فيه أفصح الصبح بإعلان الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، المُسمى تعسفًا انتدابًا، ومعه رفرف العلم بحلته الجديدة، فوق الإدارات والمؤسسات، على إيقاع وعزف النشيد الوطني.
من هنا تبدأ الحكاية، حكاية من صنع هذا الاستقلال؟ وماذا يعني هذا الاستقلال؟ هل هو استقلال في الشكل يستبطن تزييفًا أم أنّه استقلال حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى؟
الاستقلال معناه أن يكون الإنسان قادرًا على بناء نفسه، ليستطيع أن يؤمن استمراريته ووجوده، كما أن يكون حرًّا في إرادته وقرارات نفسه، ليكون سيدًا، وإلّا هو عبد أعجز من أن ينبث ببنت شفة، وتُملى عليه الحركة قبل الفعل.
وإذا ما تسالمنا على تنجز الاستقلال، واعتبرناه حقيقة واقعة، لا لبس ولا جدال فيها، ترى هل قُدم الاستقلال في الرواية، على الأقل المدرسية منها، كما ينبغي؟ أم يعتور ذلك تشويهات ونتوءات، سلطت الضوء على شخصيّات ظهرت إلى العلن، وحيكت الرواية فيها على أنّها شخصيّات صنّاع المجد، وقد تمثل ذلك في رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة، وبعض النواب دون سواهم، كانوا قد اعتقلوا أو رسموا العلم، متجاهلة حتى نواب كان لهم سبق القصب في تحقيق هذا الاستقلال…. مع التقدير الكامل لتضحياتهم وتفانيهم لخدمة هذا الوطن الوليد والمُستولد…!!!
ولكن ما السر الكامن وراء تغييب وتهميش شرائح ومن مختلف أطياف المجتمع اللبناني وفئاته ناضلت وجاهدت وقدمت شهداء، في سبيل هذا الوطن؟ هل هو القصور في الكتابة وصنع السرديّة، لتقديمها كما هي؟ أم هو ذاك الشعور بالتعالي من ذك الفريق الممسك بالسلطة؟ أم هو تلك الذهنية الاستئصالية والإقصائية عمّا عداها حتى ولو كان مجرد اسم أو رمز يكتب على قصاصات الورق؟ أم هو ذاك العداء المستحكم بين هويّات وهويات؟
ربّما قد يشكل بعض ما تقدم من أسئلة عوامل لهذا التغييب، وربّما قد تشكل بمجموعها المثال الصارخ وراء ذاك التغييب والتهميش.
من الحكايات، في كتاب التاريخ في صناعة الاستقلال تمجيد لأسماء أحزاب وجمعيّات، في الوقت عينه، أسماء أحزاب وشخصيات مآلها التغييب والتهميش، في سرديّة انتقائيّة قل نظيرها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1 – قصة معركة العلم، عندما حاولت بعض الجماعات الموالية لفرنسا إحياء الاحتلال الفرنسي، ووضع العلم الفرنسي على باب البرلمان بدلًا من العلم اللبناني، فتصدى لهم نعيم مغبغب، وأطلق النار من مسدسه على محاولي إنزال العلم اللبناني، ومعها بدأت المعركة، وحيث كان نواب ووزراء، وسموا بالأبطال، يختبئون في ردهات المجلس، كان “حسن عبد الساتر” الذي أثار غضبه مشهد العلم الفرنسي، يصول ويجول في الميدان ويمطر قوات الاحتلال بوابل من الرصاص، وبيده الاخرى علم التقطه “عنوة” من رئيس مجلس النواب آنذاك صبري حمادة عندما خرج من المجلس، ليزرعه على بوابة المجلس النيابي، حيث أطلق عليه عسكري سنغالي الرصاص، فاخترقت الخوذة رأسه، ليرتقي شهيد في معركة العلم.
2 – قصة الدّفاع عن بيت الاستقلال، حيث كانت بقايا الحكومة، اتخذتها مقرًا لها، فكانت موقعة الشهامة مع الشهيد “سعيد فخر الدين” الذي تصدى مع رفاقه من الحرس الوطني لتقدم مصفحات جيش الاحتلال الفرنسي من ناحية سوق الغرب – عيتات، للمرة الثالثة فارتقى شهيدًا.
3 – تناس بالمطلق لأبطال الاستقلال في قلعة راشيا كـ “جبران جريج وأنيس فاخوري وزكريا اللبابيدي، وأديب البعيني، وغيرهم”.
4 – تنزيه الاحتلال الفرنسي من المجازر والجرائم، وتقديم صورة ناصعة له، وعلى سبيل المثال: المجزرة التي قامت بها قوات الاحتلال الفرنسي إبّان قمعها المظاهرات في طرابلس والذي ذهب ضحيتها 11 شهيدًا من الأطفال، ارتقوا شهداء دهسًا بمصفحات الفرنسي.
ومن جانب آخر في وقت برزت فيه أسماء أحزاب وجمعيّات كالنجادة والكتائب، باعتبارها صانعة الاستقلال، يتم تجاهل روابط الطلاب والإعلام، والعمال والفلاحين والنساء والنقابات بكل أطيافها من تظاهرات وتحركات، حيث الاكتفاء بذكر أسمائها، دون إفراد حيّز خاص بها، وحتى يصل بها الأمر إلى حذف بعضها من قاموس التاريخ بالكامل، كالقومي والشيوعي والتيارات العروبيّة والإسلاميّة.
وربّما قد يكون السيف الأمضى، تشويه صورة لبنان الحقيقيّة، التي ينبغي، منذ بداياتها، أن تكون واضحة “لبنان عربي الهوية والانتماء”، وضعوا لبنان في مسار آخر، بميثاق بين شخصيتين، وضعوه على سكة التنافي السلبي، بين متنافيين سلبيين، تخل عن الوحدة السورية – العربية، مقابل تخل عن الحماية الفرنسيّة، والعكس، فجاء هذا الوجه مشوهًا وملتبسًا “ذو وجه عربي”، متلبسًا لبوس طائفية مقيتة بغيضة، وهو ما يشي بالتوافق على استبعاد الجماعة المعروفة بميولها المغايرة لبنية النظام السياسي وتركيبته.
وينسحب هذا الأمر على المراحل السابقة للاستقلال، بالإضافة للعامل البريطاني، وضعف الدور الفرنسي، مع تعاظم الضغوط على الفرنسيين.
وما يزيد من التهميش والاستمرارية في التحكم، منح الاستقلال الرسمي للبنان لطبقة سياسيّة كانت تعمل على تشكيلها لتحكم البلاد وتؤمن من خلالها نفوذها وهيمنتها.
وما يزيد من قتامة الصورة، عندما ترى في يوم الاستقلال، الوفود الرسمية تنطلق لوضع الأكاليل على ما يسمى “رجالات الاستقلال”، مع استبعاد بالمطلق لذكر الأبطال الذين دافعوا وضحّوا لأجل هذا الاستقلال، وكذلك الضحايا والشهداء الذين ارتقوا وحرمانهم من التكريم.
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إنّ الاستقلال في تاريخنا، ينبني على سرديّة مقفلة، تقفز فوق الحقائق، ربّما هو استقلال في الشكل، ليس أكثر من تاريخ، خال من المضمون، كما بيّنت التطورات، حيث يحمل في طياته مقوّمات فنائه بنفسه… باعتبار أنّه أرخى بثقله باتجاه ليبرالية مفرطة، مغلفة بقناع الطوائفيّة، التي لا تزال بسوسها تنخر في بنيان هذا البلد، وتؤجج روح البغضاء فيها ريح عاتية من الخارج والداخل.
وباختصار هو بلد عبر تاريخه الحديث والمعاصر، يقوم في استمراريته وديمومته على التسويّات الطائفيّة، وقد يكون ميشال شيحا، وهو من منظري قيامة هذا الكيان، قد عبّر عن ذلك بقوله “إنّ لبنان هو، وإلى وقتٍ طويل، بلد التسوية الطائفيّة، ويجب ألّا نطلب منه لأن يعاكس طبيعة الأشياء، إذ من الأفضل له أن يعيش أعرج من أن يحطم أضلاعه”.
هذا هو غيض من فيض الواقع والحال، وهل يستمر استقلال دون بناء سرديّات حقيقيّة، مع دفن طاقاته المولدة، ألا وهم الشهداء والأبطال المنسيين؟ وهل بهذه السلوكيّات، نحفظ الاستقلال لنحفظ الوطن؟
مع الاستقلال، وهو ما يشي به واقع الحال وبلحاظ الماضي، نختم بقول قد ينطبق عليه: “فاقد الشيء لا يعطيه”، ولكم في ما مضى عبرة يا أولي الألباب.